متلازمة الأزمة الأوكرانية وبناء نظام دولي جديد مصير الصين التاريخي هو الوقوف الى جانب العالم الثالث
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
سلط مقال بعنوان “الأزمة الأوكرانية وبناء نظام دولي جديد” في عام 2022 الضوء على الصين في سياق اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ونبه المقال إلى مخاطر النظام الدولي الحالي، وإمكانيات بناء نظام دولي جديد.
إن اندلاع الأزمة الأوكرانية لم يغير المشهد الجيوسياسي فحسب، بل أدى أيضاً إلى اضطراب خطير في النظام الدولي الحالي. وعلى وجه الخصوص، أدى فرض عقوبات كاسحة على روسيا من قبل الولايات المتحدة، ودول غربية أخرى إلى تقويض قواعد النظام الدولي الحالي، وكشف عن طبيعته القسرية الحقيقية. لذلك، يجب أن تكون هذه الأزمة بمثابة تذكير قوي للصين بالحاجة إلى تعميق تفكيرها في أسوأ السيناريوهات والنظر بجدية في بناء نظام دولي موازٍ جديد للنظام الحالي الذي يهيمن عليه الغرب.
الاستعداد لأزمات المستقبل
وبحسب المقال، فإن النظام الدولي الحالي الذي تهيمن عليه الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، هو نظام رأسمالي ليبرالي بطبيعته، وخلال الأوقات التي تعمل فيها الرأسمالية الليبرالية بشكل جيد، يتوسع هذا النظام عالمياً، ويبدو أنه قائم على القواعد وأنه عادل، ويمكنه أن يشمل معظم البلدان والمناطق في العالم. ولكن في أوقات الأزمات، تكون الرأسمالية الليبرالية في حالة اضطراب، وتتخلى عن المعايير الدولية الراسخة أو تحاول إنشاء معايير جديدة تتميز بزيادة التفوق، حيث تتخلى الأمة المهيمنة عن التزاماتها المفترضة بالقيادة، وتعود إلى اتباع سياسة الإكراه.
في سياق الأزمة الأوكرانية، تجاهلت الولايات المتحدة والدول الغربية المعايير الدولية، وطردت روسيا قسراً من الهيكل المالي العالمي، ولا سيما من جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك ” سويفت”، وصادرت الأصول العامة والشخصية الروسية، وعملت على تجميدها وتجميد احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي لتتجاوز هذه الإجراءات الوسائل التقليدية للمواجهة التي تستخدمها الدول، مثل الحروب التجارية والحصار التكنولوجي وحظر النفط، حيث كشفت هذه الانتهاكات الصارخة لما يسمى “النظام القائم على القواعد”، النقاب عن الطبيعة التعسفية وغير القانونية والمتحيزة للنظام الدولي، وكيف يمكن للولايات المتحدة وحلفائها التلاعب به لإجبار دول أخرى على ابداء الطاعة لهم. من وجهة نظر الصين، تمثل الأزمة الأوكرانية تحذيراً من احتمال أن تتعرض الصين لسيناريوهات ستخضع فيها لمثل هذه الإجراءات العدائية، وعليها لاستعداد لذلك. هناك حاجة إلى إعادة فحص النظام الدولي الحالي من أجل فهم مزاياه وعيوبه بدقة، والتخلي عن أي أوهام حول إنصافه وقدرته على البقاء على المدى الطويل، وفي أثناء المشاركة في النظام الحالي وتعظيم فائدته، يتم الاستعداد لبناء نظام دولي جديد. وبالنظر إلى حجم الصين، تتطلب مهمة التجديد الوطني أكثر بكثير من مجرد استراتيجية اقتصادية لمجرد “الدوران الداخلي”. ولتحقيق التصنيع والتحديث، يتعين على الصين، بحسب المقال، الانخراط مع العالم وتطوير “تداول دولي” أوسع من خلال الوصول إلى الموارد والتقنيات والأسواق الخارجية.
لقد كانت المهمة المركزية لسياسة الإصلاح والانفتاح في الصين على مدى العقود الأربعة الماضية هي انفتاح البلاد على العالم الخارجي، والمشاركة في النظام العالمي لتعزيز بيئة دولية أكثر ملاءمة لمزيد من التحديث، وفي الوقت عينه، كان على الصين اتخاذ الإجراءات اللازمة عندما تهدد الجوانب العدائية للنظام الحالي المصالح الأساسية للبلاد.
في الوضع الراهن، ومن جهة، من الضرورة بمكان أن تكافح الصين بحزم تلاعب الولايات المتحدة والدول الغربية بالنظام الحالي، ومن ناحية أخرى، أن تبدأ في بناء نظام عالمي جديد أكثر ديمقراطية، وأكثر إنصافاً من خلال التعاون مع البلدان النامية.
الصين والعالم الثالث
لم يقتصر تشكيل النظام العالمي الحالي على الصين وروسيا والولايات المتحدة وأوروبا، حيث أنشأت البلدان والمناطق في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية مجموعة من الشبكات الإقليمية الجديدة وسط تراجع القوة الأمريكية. وعليه، فإن التعاون مع الدول النامية الأخرى ضروري للصين لتكثيف جهودها لإنشاء نظام دولي جديد، وقد وضعت مبادرة “الحزام والطريق” منذ أن اقترحها الرئيس شي جين بينغ في عام 2013، الأساس لمثل هذا التعاون وتحقيق نظام جديد.
منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، زودها العالم الثالث باستمرار بمساحات جديدة للبقاء والنمو، بالإضافة إلى مصادر جديدة للقوة كلما واجهت ضغوطاً من القوى العظمى، بما في ذلك حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا، ودول أخرى في أمريكا اللاتينية في الخمسينيات والستينيات. ومن ثم كان هناك مؤتمر “باندونغ” عام 1955 وحركة “عدم الانحياز”، وتطوير نظرية العوالم الثلاثة لـ ماو تسي تونغ في السبعينيات، والتركيز على التعاون بين الجنوب والشمال خلال المراحل الأولى من الإصلاح والانفتاح في الثمانينيات، وإنشاء آلية “بريكس” في نهاية القرن الماضي، ومؤخراً تطور مبادرة الحزام والطريق على مدى العقد الماضي.
على مدار السبعين عاماً الماضية، تبنت الصين مجموعة واسعة من سياسات العلاقات الخارجية، بدءاً من “التهميش” مع الاتحاد السوفييتي في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى سياسة “الاندماج” في العالم أو مع الولايات المتحدة، في مطلع القرن. ومع ذلك، تحولت الصين بشكل منهجي إلى العالم الثالث، كلما شعرت أن استقلالها وسيادتها مهددان. وبالتالي، هذه العلاقة مع العالم الثالث هي مصير الصين التاريخي. واليوم، حيث أصبحت قطباً رئيسياً في العالم وتواجه استراتيجية معادية لاحتواء الهيمنة الأمريكية، لا يمكن للصين اتباع سياسة التحالفات التي اتبعتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. ذلك أن تقسيم العالم إلى كتل معادية سيجعل البشرية على شفا حرب وكارثة عالمية. لذلك يجب على الصين أن تواصل اتباع سياسة خارجية مستقلة وغير منحازة تركز على الجمع بين العديد من دول العالم الثالث -التي تشكل الأغلبية العالمية -لتعزيز أشكال جديدة من الشراكة، وإنشاء شبكات جديدة متعددة الأطراف، وإنشاء نظام دولي جديد. وبالنظر إلى ممارسات وتجارب مبادرة “الحزام والطريق” حتى الآن، ومع مراعاة التحديات التي تفرضها الأزمة الأوكرانية، ينبغي أن يسترشد نهج الصين في بناء نظام دولي جديد بالاعتبارات التالية:
أولاً: يجب أن يقوم توجه الصين على المصالح الاستراتيجية بدلاً من المصالح التجارية، اذ لا يمكن للصين أن تقتصر على تصدير طاقتها الإنتاجية ورأس المال أو ضمان وصول الشركات الصينية إلى الموارد والأسواق الخارجية، ولكن يجب أن تعطي الأولوية لما هو ضروري لضمان البقاء الاستراتيجي والتنمية الوطنية. ومن خلال تبني هذا المنظور الاستراتيجي، يصبح من الواضح أن النهج الذي تتبعه العديد من الشركات الصينية والحكومات المحلية تجاه الدول والمناطق الأخرى، في إطار مبادرة الحزام والطريق، ليس مستداماً، لأنه أعطى الأولوية للمصالح التجارية ويميل إلى تجاهل المصالح الاستراتيجية.
ثانياً: يتطلب إنشاء النظام الدولي الجديد تطوير رؤية وفلسفة وأيديولوجية جديدة لتوجيه وإلهام الجهود المبذولة لبنائه. في هذا الصدد، فإن مبادئ مبادرة الحزام والطريق المتمثلة في التشاور والمساهمة والمنافع المشتركة غير كافية، وبينما توحد الولايات المتحدة اليوم المعسكر الغربي تحت شعار “الديمقراطية ضد الاستبداد” المزيف، يجب على الصين أن ترفع بوضوح راية السلام والتنمية، وتقود العالم النامي الواسع من خلال دعوة وإقناع المزيد من الدول الأوروبية للانضمام إليه. كما يجب أن تتكيف دعوة الرئيس شي جين بينغ العالمية إلى “بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية” مع الوضع الدولي الجديد، كما يجب مشاركة المفهوم الصيني “للازدهار المشترك والتنمية المشتركة” مع العالم وتعزيزه كقيمة أساسية في بناء نظام دولي جديد.
ثالثاً: يجب إنشاء “التنمية الدولية” ككيان مؤسسي لإنشاء نظام عالمي جديد. على عكس آليات التحالف الغربي، مثل مجموعة السبع الكبار، ومنظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو”، التي تهيمن عليها أقلية من الدول الغنية. ويجب أن يجيب النظام العالمي الجديد على السؤال الأساسي الذي يواجه الغالبية العظمى من العالم، وهو كيف يمكن للبلدان النامية أن تنظم نفسها بشكل أكثر فعالية وفقاً لمبدأ عدم الانحياز؟. إن المبادرات غير المنظمة وغير الملزمة، مثل المؤتمرات والإعلانات، غير ملائمة على الإطلاق لهذه المهمة. بل ينبغي تعزيز آلية مؤسسية مثل “التنمية الدولية” وتنفيذها لتعزيز العمل التنظيمي الأكثر قوة وتطوير شبكات المعرفة والثقافة، ووسائل الإعلام والاتصال، والتعاون الاقتصادي، فضلاً عن المشاريع الأخرى.
باختصار، يجب إنشاء أشكال العمل التنظيمي وتجربتها في إطار ولاية السلام والتنمي، بحيث يكون بناء نظام جديد لا يعني التخلي عن النظام الحالي، فخلال الأربعين عاماً من الإصلاح والانفتاح، كان اتجاه الصين وهدفها يتمثل في الاندماج في النظام الدولي القائم. تخلفت الصين عن الركب في التصنيع والتحديث، ولم يكن أمامها خيار سوى التعلم من الدول الغربية، واستيعاب معارفها وخبراتها المتقدمة، حيث سيؤدي كسر هذا النظام حتماً إلى إعادة الصين إلى المسار القديم لسياسة “الباب المغلق” في الستينيات والسبعينيات، مما يؤدي إلى عزل البلاد عن الاقتصادات المتقدمة في عالم اليوم.
في الوقت الراهن، قطعت الصين شوطاً طويلاً على طريق العولمة واستفادت منها، وبات الإصلاح والانفتاح مرتبطان الآن بالمصالح الأساسية للشعب الصيني. لهذا السبب، ليس من المجدي التخلي عن فوائد المشاركة في النظام الحالي، مع الحاجة الملحة للاستعداد للتهديد المتمثل في قيام تحالف غربي بقيادة الولايات المتحدة بتخريب النظام العالمي الحالي.
إن إنشاء نظام دولي جديد والمشاركة النشطة في النظام الحالي هما عمليتان يمكن تنفيذهما في وقت واحد دون تعارض، حيث يهدف النظامان إلى التداخل والترابط، فعندما تبدأ التغييرات الكمية التي تراكمت بواسطة النظام الجديد في التحول إلى تغييرات نوعية، سيظهر نظام عالمي جديد تماماً بشكل طبيعي.
الخط الفاصل بين الشرق والغرب
في الوقت الراهن، يتزايد الغضب الغربي بشكل متزايد، حيث رفضت الغالبية العظمى بشكل واضح الانضمام إلى مبادرات محور الناتو ضد روسيا، وأكثر من ذلك، العمليات التي اعتقدت المؤسسة الأطلسية أنه لن يتعين عليها مراقبتها لسنوات عديدة أخرى، والتي تتكشف الآن أمام العالم برمته. كان للعملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها روسيا في شباط من العام الماضي ميزة تسليط الضوء على كل التضليل الشديد من جانب الغرب وليس فقط تجاه روسيا، في إطار الالتزامات التي لم يلتزم بها الفضاء الغربي، وذلك منذ التسعينيات وطوال الفترة الأخيرة، بما في ذلك في إطار اتفاقيات “مينسك”. اذ يبدو أنه لم يكن أمام الغرب خيار سوى الكشف الكامل عن وجهه البغيض للأغلبية الساحقة من شعوب العالم، على وجه الخصوص فيما يتعلق بحقيقة أن أوضاع الأزمات المختلفة على المستوى الدولي، من الشرق الأوسط إلى إفريقيا، والتي غالباً ما تكون ناجمة عن السياسة الغربية مباشرة، لا تستحق اهتماماً خاصاً من هذه الأقلية التي أعلنت نفسها على أنها ما يسمى “المجتمع الدولي”، وهو ليس كذلك ولن يكون كذلك. ولكن طالما أن مصالح الغرب تتأثر لأن وقت الإفلات من العقاب قد انتهى فعلياً، يجب على البشرية جمعاء أن تستمع ليل نهار إلى أنين مؤسسة الناتو.
أما بالنسبة لأوكرانيا، وهي واحدة من أكثر الجمهوريات السوفيتية السابقة تطوراً اقتصادياً في وقت نهاية الاتحاد السوفييتي وأصبحت بسرعة واحدة من أفقر البلدان في أوروبا، فقد أصبح من الواضح أكثر من أي وقت مضى أن المشروع الغربي لـ كييف هو مجرد مشروع آخر لعملية احتيال، لكنها ذات أبعاد هائلة، والأهداف الحقيقية للغرب، وراء الكلمات الرائعة للديمقراطية والحرية، لم تهدف أبداً إلى خلق “قصص نجاح” في البلدان التي تمر تحت فقاعتها، بل الهدف هو استغلالها فقط ضد المعارضين الرئيسيين للهيمنة والإملاءات الغربية. علاوة على ذلك، فإن بعض البلدان الأخرى المعنية بهذه التجربة الغربية، ولا سيما الجمهوريات السوفيتية السابقة مثل جورجيا أو مولدوفا، بدأت الآن على نحو متزايد في تنفيذها.
بشكل عام، يرتسم الخط الفاصل الجديد بين الشرق والغرب، أي بين عالم متعدد الأقطاب من جهة، والدول التي تتوق إلى الأحادية القطبية من جهة أخرى. علاوة على ذلك، حتى أصحاب الثقل في الدعاية الغربية يرسلون الآن رسالة مفادها أنه سيكون من الضروري التفاوض بمشاركة قوى غير غربية، ولا سيما دول “البريكس” حول ملف أوكرانيا، مؤكداً في الوقت نفسه التصريحات الأخيرة للعناصر الرئيسية في نظام كييف الذين يتحدثون عن زيادة الضغط من دول كثيرة، حتى يتفاوض النظام. وعليه، فإن المرارة التي يعترف بها ورثة انقلاب الميدان بهذه الحقيقة لا ترتبط بشكل واضح بحقيقة أن نظام كييف سوف يضطر إلى التنازل عن الأراضي التي كانت تاريخياً لا تملك أي شيء. وهذا سيعني انخفاض كبير في التمويل الغربي، بعد أن فضلوا إثراءهم الشخصي بدماء شعوبهم. لذلك أصبح من الواضح الآن تماماً أنه سيتم رسم خط الترسيم، والسؤال الذي لا يزال مفتوحاً هو فقط أين ومتى؟.
على الجانب الروسي، لا يزال الاعتدال قائماً، مع العلم أن روسيا تعمل على المدى الطويل، وتفضل عدم الاضطرار إلى استخدام إمكاناتها الكاملة من أجل السماح للبشرية بتحقيق أفضل ما هو على المحك اليوم. علاوة على ذلك، فإن عمليات السلام في أماكن مختلفة في العالم غير الغربي، والتي تم تأكيدها بالفعل أو في مرحلة الانتهاء، تُظهر أهمية ضبط النفس الروسي. فبينما يظل التطفل الغربي يركز على مختبره التجريبي في أوكرانيا، فإن الشعوب غير الغربية تشيد بالأحداث التي تهم سورية وتركيا وإيران والمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال لا الحصر. أما بالنسبة للأنظمة العميلة التي أنشأها ونصبها الغرب، فلن يكون أمامها وقت طويل لتعيش عندما يوجد حد أدنى من الحكمة من قبل الشعوب التي تقع ضحية هذا الاحتيال الغربي.