حين.. جالست القدس!
حسن حميد
يا الله.. كم عانيتُ، وكم تعبتُ، وكم ضاقت عليّ الأرض، وكم صرخت، وكم ناديت، وكم رجوت، وكم بكيت، وكم آخيت روحي، وكم هدهدت قلبي، وكم سألت، وكم قرأت، وكم جلت، وكم هويت فوق الأدراج نزولاً إلى القيعان، وكم صعدت فوق الأدراج طلباً للضوء، وكم طلبتُ الظلّ وقد أحاط بي الحرور، وكم طلبت الهواء وقد عمّني الحشر، وكم بللت ورقي بدمعي، وكم مزّقت منه وأنا أعرف بأنني أبدّد دفئي، وكم نحّيت، وكم أقصيت، وكم انحنيت كالشجر في الضفاف، وكم انطويت مثل القنافذ، وأنا أبتهل راجياً أن يُسلم الكلامُ قياده إليّ، وكم قلتُ لحبري: أنقذني أرجوك، وكم هامستُ الورق: يا رفيقي آنسني، وكم استللت من الغناء العراقي وأدنيته مني، كيما يحرقني بحزنه الغامق، وكم ناجيت ربي: يا رب، هذه الصفحة فقط، أرجوك، ولك شكر غابات الدنيا ومحيطاتها، وناسها الزاهدين.
بلى، تلك كانت حالتي، وهذا وصفها، حين جلستُ أكتب سردية /مدينة الله/ التي عاشت حلماً في صدري طوال سنوات وعيي بها، وطوال سنوات قراءتي في كتبها، وطوال سنوات عشقي لها، قلتُ منبهاً روحي: جدير بالكائن البشري أن يُخلق ويعيش، ويقرأ، ويتعلّم، ويغبّ من الآداب والتواريخ والحادثات والفنون، ويعي حالات العشق المجنونة ما يقدرُ عليه كيما يكتب عن القدس صفحات عشراً، أقل أو أكثر، ليقول لها: أنت وعمرانك، أنت وبهرة جمالك، أنت وعقباتك، أنت وأسواقك، أنت وحزنك اليومي الذي صار شجراً عالياً، أنت وطيور حمامك، أنت وأدراجك الحجرية الرّاهجة بزرقتين، زرقة البحر الذي يميل نحوك من أول برّ يافا، وحتى بيوت التعامرة وأسوار أريحا، وزرقة الزنابق الشامخة في مداخل البيوت، وفوق الشرفات التي تبوح بغنى البيوت ودفئها، أنت وتمتماتك، وأحلامك، أنت وليلك الطويل البادي في عزّ النهارات، أنت والمزامير التي تُقرأ يومياً نصوصَ عشق من الآتين إليك من آخر أطراف الدنيا، والعابرين نحوك بقلوبهم الجسورة رغم الحواجز السود، الحديدية، ورغم الأقفال ذات الأنياب الأكول، ورغم جهامة الوجوه العابسة، والمجنّدات اللابسات قمصان الجلافة والإخافة، اللواتي يختلسن نظرة خاطفة في المرايا التي يحملنها في جيوب قمصانهن المنفوخة بعد كلّ نهر، وغضب، ودفع، وشتم كيما يصبحن حاجزاً راعباً من البطش يحول بين العشاق القادمين والمعشوقة القدس، وكيما ترى هؤلاء المجندات صورتهن الآن بعد أن صرن كائنات شوكية، أنت وشبابيك وبيوتك، وناسك، وذهول الخلق الجوالين هنا وهناك طيّ أقفال الصمت والحيرة، أنت وروائح القهوة الهبوب في الصباح والمساء، أنت والنسوة الجالسات ضحىً كأميرات فوق أرصفتك يبعن الخضراوات، وأرغفة الخبز المرقوق، والجبن، وأقراص العسل، والزيتون، وأطباق القش، وقد أضأن المكان بأنوار وجوههن القمرية، أنت، أنت يا قدس.. المعنى بصلصلة أجراسه النادهات.
-2-
نعم، أعترف، بأنني قرأت طوال عمري لأعرفك، قرأتُ وجهك، مثلما يقرأ الوليد وجه أمّه ليعرف لماذا هي أمّه، ولماذا يدقّ قلبها، ولماذا تناغيه، وتناديه، ولماذا تضحك له، ولماذا تلفّ وجهَهَا، كلما شردت، سحبُ الهموم الطوال، وأعترف بأنني جالست خرائطك، كي أتعلم جهات العشق، وانحنيت حتى انغرست قدماي في ترابك الزعفران، كي أرى الجذور المذهلات، وكم غوّرت بعيداً كيما ترتوي، وكم ناديت ربي ورجوته: ربي نظري، نظري، دعه سندي كي أرى قواعد هذه الدار، وكم طار قلبي فرحاً حين رأيت مليكي صادق، وقربه أهل كنعان يحيطون به وبها، وهو يرمي قطع الذهب في أساسات المداميك لتكون دنياك، يا سيدتي، ذهباً، وأرضك ذهباً، وعمرانك ذهباً، والدروب الآتيات إليك ذهباً.. وأكثر! قلتُ ورجوتُ: ربي.. نظري، نظري، كي أرى وجوه سارقي الذهب، وقد سال ندى أنوفهم المعقوفة، فوق أكياسهم التي حشوها بالذهب، وكي أقول، إن سُئلت يوماً: من هم، وما شغلهم، فأشير إلى الحواجز السود الحديدية ومن يواقفونها، ويستندون إليها، إلى كائنات العذاب اليومي، إلى السلالات التي امتهنت ثقافة الخراب والاستعلاء والقتل.
-3-
أجل، قرأتُ الكتب.. لأراك، لأرى كم مرّة بكت بيوتك، وكم جولة للنار عصفت في كلّ نبيل ونفيس حرصت عليه، وكم مرّة نهضت بمفردك فطاولت ما حولك من الجبال، وفوق قدمين من صخر، ورخام، ومعدن صلد قسّته جيولوجيا المحبة!.
قرأتُك كي أكتب صفحة واحدة بدمع قلبي، وذعر عينيّ، ورجفة يدي، وعواء روحي، لأقول لك، وببساطة تشبه أرغفة الطابون التي تتحمّل بعزة وصبر وقيدة النار كيما تصير أرغفة شقراً:
أنت مدينة الله الأزلية، ونحن أهلك.. وعشاقك الأبديون!.
Hasanhamid55@yahoo.com