الافتتاحيةالبعث أونلاينسلايد الجريدةصحيفة البعثمجلة البعث الأسبوعية

جنين.. جيل جديد يمسك بزمام المقاومة

بسام هاشم   

لن يستطيع نتنياهو وقف ملاحقته بتهمة الفساد، ولن يوقف الاعتراضات على إصلاحاته القضائية.. كما لن يتمكّن غريمه في وزارة الحرب، غالانت، من تصعيد العدوان على جنين إلى ما لا نهاية، دون المخاطرة بخسائر جسيمة، ولن تتوفّر الفرصة لوزير المالية سموتريتش لاستغلال “الفوضى” القائمة كذريعة لتوسيع المستوطنات، أما ما يسمّى وزير “الأمن القومي”، بن غفير، فسوف يندم على الساعة التي تخيّل فيها أن إطلاق العنان للمستوطنين سوف يحقق حلم “إسرائيل” التوراتية!.

“عملية اقتحام” هي أعجز، في المحصلة الأخيرة، من أن تلبّي أهداف وطموحات زمرة واسعة من السياسيين والأمنيين الفاشلين الذين عفا عليهم الزمن، وأفسدت الصهيونية المهترئة قدرتهم على المحاكمة، بحيث لا يستوعبون حقيقة أن الاحتلال ينتمي إلى حقبة مضت، وأن لا أحد يستطيع إخضاع الفلسطينيين أو إجبارهم على الاستمرار في ظل واقع يرفضونه، ولا أن يمحوهم عن وجه الأرض.. وأن هناك بداية تغيير مخيف لدى فلسطينيي الداخل (الضفة وفلسطين التاريخية)، وأن الشرق الأوسط بات بالفعل شرق أوسط المقاومة.

عشرات الشهداء والجرحى خلال يومين، مجازر متنقلة بين الأزقة، وسيارات إسعاف ممنوعة من الوصول إلى المصابين، ومداهمات واعتقالات.. حصار من كل الجهات، ومئات المدرعات والجرافات العسكرية التي تدمّر المنازل والشوارع مخلفة أكواماً من الأنقاض في كل جنبات المخيم، والهدف المعلن استهداف “المقاومة المسلحة”، وإرسال رسالة إلى “المدنيين” بعدم احتضان المقاومين، أو التضامن معهم، وأن كل هذا القتل والتدمير الوحشي إنما هو نتيجة “عقاب” لدعم المقاومة. ولكن ما حدث – ويحدث – هو أننا أمام بداية واقع على الأرض مختلف تماماً، وأن من الوهم أن يتخيّل الإسرائيليون أن العدوان على جنين يمكن أن ينتهي بتحويله إلى مخيم تحت السيطرة.. على العكس، فالأكثر ترجيحاً أن ينتهي المطاف بمدن الضفة كلها إلى حمل السلاح، والاستمرار بالمقاومة، وتلك هي ردة الفعل الطبيعية، والمنتظرة، تجاه أي قوة محتلة: لا يمكن للاحتلال أن يفرض نفسه إلا بالقوة الغاشمة، ولفترة منتهية لا محالة، كما لا يمكن له أن يتوهّم أن المداهمات والتوغّلات والاغتيالات والاعتقالات لن تستدعي مواجهاتٍ مباشرة يومية ضد جيشه ومستوطنيه معاً، وأن هذه المواجهات المباشرة واليومية ليس لها إلا أن تضفي، مع امتداد الاحتلال، طابعاً محلياً وعفوياً، وحتى دفاعياً، على استراتيجيات المقاومة الجديدة التي تجمع بين الكفاح المسلح وأشكال المقاومة الشعبية، التي تثبت – ربما – أنها أكثر إيلاماً وتأثيراً، وأن لديها فرصاً أكبر للنمو والاستمرار أكثر من الاستراتيجيات التي كانت اعتمدت طوال عقود طويلة ماضية، على الرغم من أن “كتائب” المقاومة الجديدة تفتقر لأيديولوجيات محدّدة، وتعوزها البنى السياسية والتنظيمية الثابتة، ويهيمن عليها قادة محليون يستخدمون شبكاتٍ لا مركزية، وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، وتخلق رموزها وأبطالها وقياداتها في قلب المعركة، وهي خلايا مقاومة لا علاقة لها بالتوترات المحلية أو الإقليمية، ولا توجّه أسلحتها نحو مجتمعاتها، ورصاصها موجّه فقط ضد القوات الإسرائيلية.. إنها تمثل وحدة وطنية تنمو وتنسّق باستمرار مع بعضها البعض، وفي حين أنها قد تكون غير قادرة على تحقيق نصر حاسم، إلا أن جهودها كبيرة في إبقاء القضية حيّة وتحدي الاحتلال الإسرائيلي، وهي الأكثر تأهيلاً لأن تتحوّل إلى انتفاضة كاملة.

اليوم، وبينما يتصاعد العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وتتزايد عمليات التهويد والتوسّع الاستيطاني وهدم المنازل والاعتقالات والتمييز والفصل العنصريين والحصار، وتبدو السلطة الفلسطينية أضعف من أي وقت مضى، وتسمح ثلاثة عقود من الوعود الفارغة لاتفاقات أوسلو للاحتلال بخلق فراغ سياسي في الضفة وغزة.. وفي هذه اللحظة، يمسك جيل جديد بزمام المقاومة، وتصعد مجموعات وكتائب كثيرة (عرين الأسود، كتائب جنين، كتائب نابلس، وغيرها) مكوّنة في معظمها من اللاجئين الفقراء والمسلحين تسليحاً متواضعاً، للقتال في مواجهة القمع والإذلال والانتهاكات الروتينية، تماماً كما كان كل البشر يقاتلون منذ خلق البشرية، فما هي الخيارات الأخرى المتاحة للفلسطينيين سوى حمل السلاح ما دامت الأمم المتحدة وكل المنظمات الدولية مكتفية بـ”تذكير إسرائيل” بمسؤوليتها، والتعبير عن “قلقها العميق” بشأن الوضع، أو – في حالة واشنطن – إلقاء اللوم على الفلسطينيين؟.

إن الشعب الفلسطيني متحد في مقاومته، ولن يستسلم ولن يخضع، وفي نهاية المطاف سيتصالح الاحتلال مع حقيقة أن تكتيكاته لا يمكن أن تستمر، وأن تحقيق أهدافه يزداد صعوبة مع انتشار العمليات الفلسطينية إلى مناطق جديدة، وأنه ملزم بالتفكير مليّاً قبل اتخاذ أي إجراءات من شأنها أن تؤدّي إلى ما لا تُحمد عقباه.