الإقرار بالفشل يدفع أمريكا إلى المحظورات بذريعة الضرورات
“البعث الأسبوعية” – بشار محي الدين المحمد
بعد تتابع الفشل والخذلان الأمريكي والأوروبي في دفع نظام كييف المرتهن لإرادتهما إلى تحقيق أي تقدّم أو نصر ميداني على روسيا في عمليتها الخاصة ضمن الأراضي الأوكرانية، تتسع دائرة الجنون الغربي وتوجّهه نحو المحظورات بحجج واهية، حيث أطل الرئيس الأمريكي جو بايدن عبر الإعلام مبرّراً قيامه بمنح حزمة من مساعدات الأسلحة المكوّنة من قنابل عنقودية محرّمة دولياً من أكثر من 110 دول إلى نظام كييف، بحجة أن ذلك من قبيل الحل المؤقت نظراً لنفاد مخزونات الأسلحة الغربية التقليدية في أوكرانيا أو حتى على مستوى الغرب، بعد طول تشدّق أمريكي وغربي بدعوات حقوق الإنسان ونشر السلام ومحاربة الإرهاب في العالم، والأنكى من ذلك أن القرار حصل في ظل شبه إجماع من ممثلي حزبَي أمريكا الديمقراطي والجمهوري، رغم الانتقادات الواسعة لهذه الخطوة من ساسة أمريكيين ومن “الجناح الليبرالي” في الحزب الديمقراطي، والأمم المتحدة بل حتى من بريطانيا الحليف السياسي الأول للإدارة الأمريكية إذ ألمحت إلى عدم قانونية هذه الأسلحة، ويضاف إلى ذلك أن أمريكا ذاتها سبق أن اتهمت روسيا باستخدام مثل هذه الأسلحة ضدّ قوات كييف، فكيف أحلت لنفسها ما حرّمته على غيرها من أسلحة متبقية في مخازنها من معاركها وحروبها الفاشلة في أفغانستان والعراق؟
وفي سياق كهذا، يُعدّ إرسال الذخائر العنقودية الخطيرة إلى أوكرانيا تصعيداً للحرب من جانب الولايات المتحدة، حيث تشكّل في نهاية المطاف تهديداً للشعب الأمريكي ومصالح أمنه القومي؛ على اعتبار أن هذا القرار هو قرار مدّ لأوكرانيا بأسلحة دمار شامل تصل خطورتها إلى ربع خطورة صاروخ نووي تكتيكي، وهنا الرسالة واضحة بأن أمريكا قدّ تتهوّر في اتخاذ المزيد من سيناريوهات التصعيد عبر مدّ نظام كييف بأسلحة نووية تكتيكية، وهذا يعني بالضرورة فتح أبواب الحرب على مصراعيها، في وقت تطالب فيه روسيا فقط بحماية سيادة واستقلال أراضيها عبر إيجاد “أوكرانيا حيادية”.
من جهة ثانية، فإن اختيار أمريكا لهذا النوع من الأسلحة وارتضاء نظام كييف استخدامها في أراضيها رغم خطورة عدم انفجار حاوياتها بشكل كامل عند الاستخدام وبقائها فعّالة ضمن الأراضي لقتل كل ما هو حي فوق سطحها، رغم رفض وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون وصف نسبة الفشل المتوقعة في هذه الذخائر بأنها مرتفعة بشكل غير مقبول، ما هو إلا دليل قوي على فقد الأمل في استعادة السيطرة على الأراضي التي ضُمّت إلى روسيا، والرغبة في تحويلها إلى مصيدة للسكان الذين كرهوا نظام الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي النازي، واختاروا الأمان تحت الراية الروسية، كما يكمن الهدف في المحاولة اليائسة لرفع القدرة التدميرية والنارية للقوات الأوكرانية بأي ثمن كان، بعد فشل ما سمّي “الهجوم المضاد الأوكراني”، إضافة إلى الهدف الأساسي لهذه الحرب ألا وهو اللعب على الزمن لمجرّد استنزاف الدولة الروسية مهما كانت الخسائر ضمن الدولة الأوكرانية التي يستخدمها الغرب بكل احتقار كبشَ فداء لتحقيق غاياته الدنيئة ضدّ موسكو بشكل يسرّع أكثر من فرضية اندلاع المزيد من التوتر العالمي.
يصف الغرب هذا القرار بالاستراتيجي، ولكن السؤال هنا كيف تم وصفه بذلك إذا لم يكن هذا السلاح استراتيجياً؛ لأنه سلاح غير استراتيجي أساساً وغير قادر على قلب موازين المعركة أو حتى تسليم مفاتيح النصر القريب للنظام الأوكراني، ولن يغيّر تكتيك المعركة سواء لجهة القصف بالعمق، أو حتى ضرب العناصر المحميّة جيّداً، فالذخائر العنقودية ليست قادرة على إزالة حقول الألغام وغير فعّالة في تطهير الخنادق، ناهيك عن أن هذه الذخائر قد تكون خطيرة بالنسبة للجنود الأوكرانيين أنفسهم الذين سيضطرّون للتحرّك في الأراضي التي بقيت فيها الذخائر غير المنفجرة.
على المقلب الروسي، نلحظ المزيد من تطوير تكتيك القوات في استخدام الحماية الجوية، والتدريب المكثّف على الحرب الإلكترونية، ما يضيف سرعة أكثر للتقدّم الميداني، وبالتالي فإن توقيت هذا القرار لا معنى ميدانياً له في تغيير ميزان القوى على الأرض بأي شكل كان بعد استمرار الهزائم والخسائر في جبهات نظام كييف، وخاصةً بعد فشل التجييش و”الروسوفوبيا” والعقوبات الأحادية ضدّ روسيا، إضافةً إلى الفشل السابق في تغيير قواعد الاشتباك ابتداءً من قيام الغرب بإرسال الأسلحة العادية أو الصواريخ المحمولة على الكتف مروراً بالصواريخ المجنّحة مثل “هيمارس وستورم شادو” أو حتى منظومات الباتريوت أو اليورانيوم المنضّب أو الدبابات المتطوّرة إلى نظام كييف، حيث فشلت جميعها حتى الآن في ثني الإرادة الروسية عن إكمال وتحقيق أهدافها ومطالبها المشروعة، حتى إن أمريكا لم تجرؤ على إرسال طائرات إف 16 لنظام كييف؛ لأن ذلك سيسبّب لطخة كبيرة في سوق وسمعة تلك الطائرات في ظل ترسّخ القناعة التامة بأنه سيتم صيدها بسهولة من القوات الروسية المتفوّقة جوياً وبرياً وبحرياً في هذه المعركة.
وفي نهاية المطاف، الجيش الروسي يعلم أن هذه الخطوة الأمريكية الماكرة لن تغيّر شيئاً من واقع تقدّمه وتوغله الميداني في الأراضي الأوكرانية، مهما عمدت الإدارة الأمريكية إلى إطالة الحرب وكسب الوقت بعد مضيّ أكثر من 500 يوم على بدء الحرب، وبعد ما حققه هذا الجيش من سيطرة في الجنوب الأوكراني ومن ثم في الشمال الشرقي، ناهيك عن نجاحه في إبادة كتائب بأكملها لنظام كييف، حيث أثبت في كل امتحانٍ له التفوّق في الأداء بشكل غير مسبوق وغير متوقّع، لكونه الأكثر دراية بأرض الميدان وبمجمل التطوّرات مع إمكانية التعامل معها، وإن ما سيتحقق هو مضاعفة خسائر “الناتو” ونظام كييف، وتحوّل أكبر للحرب ضدّ روسيا من غير مباشرة إلى مباشرة من الإدارة الأمريكية ودول الغرب الجماعي بشكل واضح للقاصي والداني، كما يسوق هذا التصعيد الأدلة الدامغة على عدم رغبة تلك الدول في التفاوض للتسوية مهما تعدّدت المبادرات والطروح من العديد من الأطراف الصينية والإفريقية والعربية، مع تحوّل مدمّر في شكل الاقتصاد الأوروبي من متفوّق في الإنتاج إلى مقتصر على إنتاج الأسلحة لتعويض خسائره في ظل تفاقم خانق لأزماته المعيشية.