اللغة الروائية ومتعة الكتابة
سلوى عباس
تعد اللغة من أهم مكونات الخطاب الروائي إلى جانب الرؤية السردية والبنية الزمنية والفضاء والشخصيات والوصف والأحداث، وربما ما يميز رواية عن أخرى هو اللغة، هذا العنصر الفعال والحيوي في تقنيات الرواية، وقد تعامل الكثير من النقاد والدارسين مع اللغة الروائية باعتبارها مادة تعبيرية وحاملة للفكر ومضامين النص وأبعاده المرجعية، إذ نقرأ في نتاجات بعض الأدباء حساً عالياً باللغة، فمنهم من يجيد توظيفها في نتاجه الأدبي، ويقدم لنا مساحة من التأمل والغوص في فضاءات تأخذنا إلى أقصى درجات الاستدلال، والبعض الآخر نرى نتاجاته تتفجر بمفردات حسيّة تبهرنا منذ اللحظة الأولى في بناءٍ متفردٍ في المقومات الشكلية الفنية والناظمة من عناصر وقوانين اللحظة الروائية، فلا يمكن للروائي أن يقدم أفكاره ورؤاه في صورة محسوسة إلا من خلال اللغة التي عبرها تنطق الشخصيات، وتتكشف الأحداث، وتتضح البيئة، ويتعرف القارئ على طبيعة التجربة التي يعبّر عنها الكاتب.
أيضاً نرى بعض الكتاب يتقربون من قرائهم بصياغة نتاجهم بلغة أدبية تكتمل فيها شروط الأدب من الخيال والصورة الجديدة والأسلوب، حيث أن اللغة هي جزء من المتعة، ولا شيء يوفر المتعة داخل النص الأدبي غير اللغة التي إذا لم يتم توظيفها بشكل صحيح يختل ركن أساسي في النص الأدبي، فالمتعة واللغة من وجهة نظرهم توءمان وهنا تكمن جمالية اللغة، وهذه التوءمة لا يستطيع أي أحد أن يوافق بينها، لأن لها علاقة بموهبة يمنحها الخالق، كما أن اللغة الروائية تتشكل بمستويات متعددة، متغيرة، ذات أبعاد تخييلية تتصاعد بحركةٍ واعية أو غير واعية في ذهن الكاتب والمتلقي معاً، بالإضافة إلى أن للرواية أهمية أخرى لا تقل شأناً عما تقدم، وهي تذوق جمال اللغة العربية بإمكانياتها التعبيرية التي بها تعكس الرواية براعة الكاتب في جعل اللغة ساحرة تجذب القارئ محققة له المتعة مع الفهم.
مرة سألت إحدى الروائيات عن إجادتها اللعب في مضمار اللغة وهل دراستها للغة العربية سبب هذا الغنى اللغوي في إبداعها؟ وكيف توظف عنصر اللغة ليخدم فكرتها بهذه الطريقة فأجابتني:
“اللغة هي بطل من أبطال رواياتي، فأنا أحب العمل على اللغة، وأستمتع كثيراً عندما أكتب جملة وأرى أنها أعطت المعنى المطلوب، أنظر إليها وكأنني أتأمل لوحة، فأحد أبطال شخصياتي هي اللغة، أي أنها شيء قائم بذاته وأنا معنية فيه، والحقيقة لا أنكر أنني أعمل كثيراً على اللغة، وأقرأ كثيراً في التراث، وليس لأنني درست الأدب العربي فقط والذي لم أكمل دراسته، لأنه على ما يبدو لا أحب الأشياء الكاملة”.
ما تقدم كله تحكمه متعة المغامرة ولذتها في الكتابة، وقد يعود هذا الحس العالي باللغة إلى الأرضية الثقافية للكاتب من خلال قراءاته المتعددة في الشعر والأدب والتراث العربي، ومتابعته لأمهات السرديات التراثية وتعمقه فيها، إضافة إلى إتقانه الإصغاء للغة الشارع والحياة، التي تترك بصمتها في روحه، مما يساهم في تنشئته نشأة لغوية مميزة ويكتسب رصيداً لغوياً كبيراً، فالرواية لا تعيش بلغة القواميس ودواوين الشعر التراثي، بل هي لغات بأطياف متعددة، ومفردات منسوجة بأحرف الأبجدية العربية سواء في الصياغة العامية أم الفصيحة، لكن اللغة الروائية تتشظى، فتصبح لغات، وهذا كله يجعل لغة الكاتب مميزة، إضافة إلى جوانب أخرى في الرواية تجعل الكاتب يحاول تقديم بناء مختلف في روايته، إذا لم يكن في كل رواية، فبين عدد من الروايات وما يليها هناك نقلة أخرى إلى أفق آخر، وهذا ما يجعل الكاتب الناجح يقدم كل شخصية من شخصياته باللغة التي تخصها، وهنا، نستطيع أن نميز ونحدد هوية الكاتب، ونقصد أسلوبه، فالرواية الناجحة تخضع لعدة شروط مرتبطة بحسن توظيف اللغة وخلق الفكرة والحبكة الجيدة واستخدام التقنيات القادرة على إيصال الفكرة بأفضل طريقة ممكنة، بالإضافة طبعاً إلى عنصر التشويق والقدرة على شد القارئ حتى آخر صفحة، وغياب عنصر من هذه العناصر يؤدي إلى اختلال تماسك العمل ويؤثر على جودته بشكل واضح.