دراساتصحيفة البعث

قرن من الحرب المالية الأمريكية

هيفاء علي

تعتبر الحرب المالية، التي تشنّها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد روسيا، دعامة أساسية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية منذ أن طردت الحكومة الأمريكية بريطانيا والجنيه الإسترليني في عشرينيات القرن الماضي، ومثلما تستخدم اليوم مكانتها المركزية في النظام المالي العالمي كسلاح عسكري يشكل تهديداً موصوفاً لجميع دول العالم.

ومن يتابع الأخبار اليوم، يدرك أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد أعلنا الحرب ضد البنوك الروسية، وفرضا العقوبات التي تشمل إغلاق نظام “سويفت”، والتنازل عن صادرات الطاقة، مع العلم أن صادرات الطاقة الروسية تمثل 25٪ من الاستهلاك الأوروبي. ويبدو أن خطط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لجني الفوائد الجيوسياسية من الصراع الأوكراني لا تنطوي على زيادة معوقة في تكاليف النفط، التي تصل إلى 200 دولار للبرميل.

الجديد هو إعلان البنك المركزي الروسي عن تجميد احتياطيات النقد الأجنبي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث يبلغ إجمالي احتياطيات روسيا من النقد الأجنبي -العملات القابلة للتحويل والأوراق المالية والذهب التي يحتفظ بها البنك المركزي- حوالي 630 مليار دولار. ويبدو أن أكثر من نصف هذه الأموال محتفظ بها في الولايات القضائية الضعيفة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وبحسب مراقبين، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قررا أنه بمجرد التخلّص التدريجي من صادرات الطاقة، هناك حاجة إلى ضغط إضافي لإلحاق مستوى مرضٍ من الألم بالاقتصاد الروسي، حتى لا تبدو العقوبات المالية فارغة ومضحكة للغاية.

زاوية الهجوم الأخرى، بالطبع، هي المنافس الاستراتيجي الأول لأمريكا، وهو الصين، التي تبلغ احتياطاتها من النقد الأجنبي 3000 مليار دولار، أي خمسة أضعاف احتياطيات روسيا.

وبحسب خبراء الاقتصاد، فإن الاتجاه الذي ستتخذه جمهورية الصين الشعبية في الاستمرار في تدويل اليوان، للتخلي عن الدولار، والآن تجارتها واحتياطاتها من العملات الأجنبية، ولحماية نفسها من تهديد الحرب المالية من جانب الولايات المتحدة، وسواء أكان ذلك مقصودًا أم لا، وسواء تم أخذ العواقب في الاعتبار أم لا، فإن الفصل المالي والاقتصادي لجمهورية الصين الشعبية عن الغرب سوف يتسارع. إنه هدف صيني طويل الأجل سوف يجذب الاستراتيجيين الأمريكيين الحريصين على الحفاظ على قبضتهم على أوروبا، وربما يثير استياء رجال الأعمال المعتدلين الذين انجرفوا في قطار القتال ضد روسيا.

إن إلقاء نظرة خاطفة على تاريخ الدبلوماسية الأمريكية توضح الجاذبية القاتلة للحرب المالية، وتجاهل العواقب، والنتائج التي تبدو إلى حدّ كبير مثل الفشل. والجديد في الحرب المالية الأمريكية الحديثة هو نظام العقوبات والضغوط والتجميد الذي نفذه روزفلت ضد اليابان في الفترة التي سبقت حرب المحيط الهادئ. فمن المعروف أن انقطاع إمدادات النفط من الولايات المتحدة أدى إلى اندفاع الجيش الياباني إلى جزر الهند الشرقية الهولندية والهجوم على بيرل هاربور. اتخذت الإجراءات ضد اليابان في البداية شكل عقوبات، وهي في الواقع نظام تراخيص للسلع الاستراتيجية. بعد ذلك، بعد غزو اليابان لجنوب الهند الصينية في تموز 1941، وافق روزفلت على تجميد الأصول اليابانية في الولايات المتحدة، على أن تدار من قبل لجنة مشتركة بين الإدارات مكونة من مسؤولين من وزارات الخارجية والخزانة والعدل. كان تجميد الأصول، على عكس ترخيص المنتجات، حرباً مالية لا لبس فيها، تهدف إلى أن تكون أداة للردع أو الإكراه أو أي شكل آخر من أشكال الدبلوماسية.

ومنذ عام 2005، أدركت جمهورية الصين الشعبية أن الولايات المتحدة تستخدم موقعها المركزي في النظام المالي العالمي لاستهدافها، لذلك هي في حالة تأهب لإمكانية الاستيلاء على هذا السلاح القوي أو وضعه في أيدي المتعصبين المتطرفين المناهضين للصين.

اكتسبت جمهورية الصين الشعبية بعد ذلك خبرة في الحرب المالية الدفاعية من خلال إنشاء أنظمة تسوية مالية منفصلة للالتفاف على العقوبات الثانوية الأمريكية على التجارة مع كوريا الديمقراطية وإيران. حتى التهديد الأمريكي لاحتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي لجمهورية الصين الشعبية ليس جديداً، فقد تحدث أنصار الولايات المتحدة المناهضون لجمهورية الصين الشعبية سابقاً عن استهداف احتياطيات النقد الأجنبي لجمهورية الصين الشعبية، ولاسيما تريليونات الدولارات التي يحتفظ بها بنك الاحتياطي التابع لها، بنك الصين، في الأوراق المالية الحكومية الأمريكية /3120/.

في عهد ترامب، تم اقتراح مصادرة حيازات جمهورية الصين الشعبية من العملات كتعويضات لجائحة كورونا، بمبلغ 10 ملايين دولار لكل حياة مفقودة. وبفضل نجاح الولايات المتحدة في تكديس وفيات الوباء، فإن هذا سيمثل مكاسب كبيرة غير متوقعة قدرها 10 تريليون دولار، أو أكثر من ثلاثة أضعاف احتياطيات النقد الأجنبي المعلنة لجمهورية الصين الشعبية.

وبالنظر إلى هذا التاريخ، فليس من المستغرب أن جمهورية الصين الشعبية كانت تستعد للحرب المالية الأمريكية لأكثر من عقد من الزمن، وتعمل على تدويل الرنمينبي لفصل تجارتها من المعاملات بالدولار، وتطوير بديل لنظام سويفت للتسويات الإلكترونية، وتحويل احتياطاتها من الدولار إلى الذهب واليورو، رقمنة اليوان وتعزيز اقتصادها ضد العقوبات الأمريكية من خلال تخزين السلع. وهكذا، على مدى قرن من الزمن، عملت الولايات المتحدة على ترسيخ ودفاع واستغلال موقعها المركزي في النظام المالي العالمي لأغراض جيوسياسية.

لقد تعلّمت جمهورية الصين الشعبية القتال مرة أخرى فقط في السنوات الخمس عشرة الماضية، والنتيجة غير مؤكدة. ومن المتوقع أن تكون الحرب المالية القادمة أكثر شراسة، وأكثر كارثية من الحرب الحالية بين الغرب وروسيا على أرض أوكرانيا، ويأمل الخبراء ألا تنتهي الحرب المالية بين الولايات المتحدة والصين بانفجار نووي، كما حدث في هيروشيما وناغازاكي في اليابان.