مجلة البعث الأسبوعية

حرب روسيّة ناعمة.. بعد خروجها المذلّ من مالي وبوركينا فاسو.. فرنسا تندحر من النيجر

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي

“تحيا روسيا وتسقط فرنسا”..، هذه العبارة على بساطتها تختصر الصراع الدائر حالياً بين الغرب وروسيا خارج أوروبا وعلى أراضي القارة الإفريقية تحديداً، فموسكو التي لم تعلن صراحة موقفاً واضحاً من الانقلاب العسكري الذي حدث في جمهورية النيجر في الـ26 من تموز الماضي، لم تحتَجْ مطلقاً إلى التصريح بدور روسي في هذا الانقلاب، لأن هذا الدور ربما لا يكون ظاهراً للعيان كما تحاول واشنطن وباريس الإيحاء به، فالحرب الناعمة التي تخوضها روسيا على طريقتها ضد الدول الغربية في العالم عموماً، وفي إفريقيا خصوصاً، ربما تكون هي الأداة الحقيقية لتحقيق هذه الغاية، حيث وافقت مراراً على تمديد صفقة الحبوب لإمداد الدول الفقيرة وعلى رأسها الدول الإفريقية بالقمح والأسمدة، ولم تتوانَ مطلقاً عن التعاون في هذا الجانب، غير أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وقفت عارية أمام العالم أجمع بوصفها تعرقل هذه الصفقة وبالتالي تمنع إمداد الدول الفقيرة بالغذاء وتهدّد الأمن الغذائي العالمي، وتأكيداً لذلك أعلنت موسكو أنها مستعدّة لتقديم القمح والأسمدة للدول الفقيرة مجاناً، ولكن الغرب يعرقل جميع هذه الخيارات عبر العقوبات المفروضة عليها التي تمنع تنفيذ هذه الصفقة من الجانب الروسي، وبالتالي توقفت موسكو عن العمل بمقتضيات هذه الصفقة.

هذا الحوار الغربي الروسي فيما تسمّى صفقة الحبوب يشاهده العالم أجمع، وباتت الدول الفقيرة تدرك جيّداً أن من يعرقل سلاسل التوريد هو الغرب الجماعي الذي يصرّ على استخدام الصفقة في إثراء شركاته غير مكترث بمصالح الدول الفقيرة، ومن ضمنها الدول الإفريقية التي تعدّ الحبوب مادة أساسية ضمن مستورداتها وحاجة ضرورية لها، حيث أثبتت موسكو بالأرقام أن 80% من الحبوب تذهب إلى الدول الأوروبية الغنية، بينما لا يتجاوز ما يذهب إلى الدول الإفريقية 10%.

وبغض النظر عن الأسباب الموضوعية للانقلاب الأخير في جمهورية النيجر التي يأتي في مقدّمتها تبعية الرئيس المخلوع لباريس، والرغبة الجامحة لدى الشعب النيجري بالتحرّر من الاستعمار الفرنسي الذي ما زال يأخذ أشكالاً متعدّدة، فإن تجمّع آلاف المتظاهرين المؤيّدين للانقلاب العسكري أمام السفارة الفرنسية في العاصمة النيجرية نيامي وإصرار بعضهم على دخولها، فضلاً عن انتزاعهم اللوحة التي تحمل عبارة “سفارة فرنسا في النيجر” ودوسها بالأقدام واستبدالها بعلمَي روسيا والنيجر، كل ذلك ربّما يؤكّد حقيقة الموقف الغاضب جدّاً من السياسة الفرنسية في النيجر طوال الفترة الماضية التي تصرّ على استغلال هذا البلد إلى أبعد الحدود دون المساهمة الفعلية بتنميته، وهو بلد فقير رغم غناه بالموارد الطبيعية، وعلى رأسها اليورانيوم الذي تنهبه فرنسا لتشغيل محطاتها الكهربائية، في الوقت الذي يعيش فيه أغلب الشعب النيجري حالة فقر مدقع وانعداماً للأمن وأبسط مقوّمات الحياة.

ومن هنا ربّما يكون صياح بعض المتظاهرين “تحيا روسيا” و”لتسقط فرنسا”، أمراً طبيعياً لأنه جاء ردّ فعل على السياسة الفرنسية القذرة إزاء الشعب النيجري الذي لا تزال فرنسا تعدّ بلده مستعمرة من مستعمراتها، وذلك في مقابل انفتاح روسي كامل على الدول الإفريقية من خلال قمّة روسيا إفريقيا الأخيرة، التي تعاملت فيها روسيا مع نظرائها الأفارقة معاملة ندّية مبنيّة على مصالح متكافئة للطرفين بعيداً عن الابتزاز والاستغلال والهيمنة الغربية الوقحة.

ويؤكّد ذلك ردّ فعل وزارة الخارجية الفرنسية التي ندّدت بما سمّته “العنف ضد المقرات الدبلوماسية التي يعدّ أمنها من مسؤولية الدولة المضيفة”، ودعت القوات النيجرية إلى الاضطلاع بواجب “ضمان أمن المقرات الدبلوماسية والقنصلية بموجب القانون الدولي”، بينما أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده “لن تتسامح مع أي هجوم على مصالحها” في النيجر، وأنها ستردّ “فوراً وبشدة” في حال تعرّض رعاياها في النيجر لهجوم، حسبما ورد في بيان للإليزيه.

قرار الاتحاد الأوروبي وفرنسا، وقف الدعم المالي المقدّم للنيجر، وتهديد الولايات المتحدة بفعل الشيء ذاته بعدما أعلن قادة عسكريون الأسبوع الماضي الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد بازوم، يشير صراحة إلى غضب ينتاب الجهات الثلاث من استحواذ روسيا على بلد مهم من بلدان الساحل، حتى لو لم تعلن صراحة عن ذلك، حيث لا تستطيع هذه الجهات الاعتراف بفقدان نفوذها في إفريقيا لمصلحة روسيا التي تنتصر عليها الآن في أوكرانيا، وبالتالي الاعتراف بفقدان هيبتها أمام شعوبها، وهي التي تتبجّح بقيم الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان التي تدّعي أنها وسيلتها الأساسية في كسب احترام الدول.

ومهما يكن من قرارٍ لرؤساء دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” الذين عقدوا قمّة استثنائية، حول الوضع السياسي في النيجر بعد الانقلاب العسكري، فإن ما حدث هناك ربما يكون تابعاً أساساً لرغبة شعبية عارمة في التخلّص من فرنسا نهائياً ولفظها خارج المنطقة، كما سبق أن حدث في كل من مالي وبوركينا فاسو المجاورتين، حيث تؤكّد المعطيات أن سبب تصعيد فرنسا خطابها ضد الانقلابيين بالنيجر، أن فرنسا لا تكترث للديمقراطية أو للرئيس بازوم بل لمصالحها، إذ من الطبيعي بعد الانقلاب ألا تدعم المنظمات الإقليمية والدولية الانقلابيين، لكن الغريب في الأمر هنا أن المواقف متشدّدة أكثر من المعتاد.

فالرئيس الفرنسي وصف ما حصل في النيجر بأنه أمر خطير، ليس من أجل مصلحة النيجر وشعبها، بل لأن فرنسا تخاف على مستقبلها ووجودها في النيجر، لأنها تعرف ما لحق بها في مالي وبوركينا فاسو، وربما تكون النيجر هي الورقة الأخيرة بيد فرنسا في تلك المنطقة.

على أن مواقف فرنسا الحالية ربّما تحرّض الشعب النيجري أكثر على الرئيس المخلوع، إذ إنه من المعروف أن الرئيس بازوم من أبرز حلفاء فرنسا والغرب في منطقة الساحل الإفريقي، والتصرّف الفرنسي بهذا الشكل سيجعل الشعب يلتفت إلى الانقلابيين.

وعلى المقلب الآخر جاء ترحيب واشنطن بخطوة إيكواس، الطلب من الانقلابيين الإفراج عن بازوم والعودة إلى الانتظام الدستوري، وفقاً لبيان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الذي دعا فيه إلى الإفراج الفوري عن بازوم واستعادة الحكومة المنتخبة ديمقراطياً، ليؤكّد أن واشنطن باتت تتوجّس خيفة مما يحدث في القارة الإفريقية، وخاصة بعد القمّة الروسية الإفريقية الأخيرة في سانت بطرسبورغ التي حضرها أغلب الزعماء الأفارقة، والتي أكّدت تغيّراً واضحاً في شبكة العلاقات الدولية لن يكون لمصلحة واشنطن والغرب.

ويلخّص المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للحديث عن نتائج القمّة الروسية الإفريقية الثانية التي جرت فعالياتها في الأسبوع الماضي، طبيعة العلاقة التي تربط روسيا بإفريقيا حالياً، وهي علاقة مبنية على الندّية والتكامل والمنفعة المتبادلة واحترام قارة إفريقيا الغنية بما تحمله من إمكانات هائلة، والاهتمام باستقرارها الداخلي من أجل تطوير الاقتصاد والتعاون معها في شتى المجالات، ومن بينها طبعاً العسكري التقني.

فالدول الإفريقية حسب بوتين لا تطلب من روسيا صدقاتٍ بل تحاول إيجاد مشاريع مقبولة للطرفين، وبالتالي فإن المبادرة الإفريقية للسلام في أوكرانيا وافقت عليها روسيا في الوقت الذي رفضها الغرب، لأن الدول الإفريقية تفكر بشكل صادق في كيفية إنهاء الأزمة في أوكرانيا.

وفي المحصّلة، الصّدق الروسي في التعاطي مع القارة الإفريقية وحاجاتها الأساسية، يشكّل حجر الزاوية في أيّ انقلاب إفريقي على العلاقة مع الغرب الجماعي، وخاصة أن موسكو أعلنت على لسان بوتين ذاته أنها مستعدّة لإرسال الحبوب الروسية مجاناً إلى البلدان الإفريقية، وكذلك الأسمدة، وهذا ربما يكون أسلوب الحرب الناعمة على الطريقة الروسية.