مجلة البعث الأسبوعية

خلافات الزمن الجميل

أمينة عباس

لم يكن زمن الفن الجميل الذي كثيراً ما نذكره وعاشه كبار العمالقة في الفن -كما نتخيله- زمناً مثالياً خالياً من الحروب والمشاحنات والخلافات التي نسمع عنها اليوم تحدث بين الفنانين، إذ يرى الناقد السينمائي طارق الشناوي أن الماضي مثل الحاضر والمستقبل، والتجاوزات واحدة لا تختلف: “لا يوجد زمن كان جميلاً وآخر ملؤه القبح، فالأزمنة كلها يختلف فيها الجمال والقبح، الذكاء والغباء، ولا توجد إطلالة صاحبها منزّه عن الهوى، لكن “السوشال ميديا” جعلت انتشار تلك السقطات أوسع، ما يجعل الفضيحة أكبر واللوم أكبر والاهتمام بها أكبر، وبالتالي فقد تجاوزت الخلافات جميع الحدود في كل العصور، ولم تكن خلافات شريفة”.. إذاً مشاحنات وخلافات النجوم ليست حديثة العهد أو مرتبطة بالأحداث التي طرأت على مجتمعاتنا، بل هي قديمة منذ نشأة الفن السابع، حيث نشب العديد من الخلافات والمشاحنات بين كبار النجوم أيام الزمن الجميل أوصلت بعضهم إلى أروقة المحاكم يوماً، ويعتبر كثيرون أن ذلك أمر طبيعي بين أصحاب المهنة الواحدة، حيث تنتشر الغيرة والمنافسات، والصراعات أحياناً.

أشهر خلافات الزمن الجميل

محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي 

وأشهر تلك الخلافات كان بين الموسيقارين محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي، ففي العام 1958 اتهم فوزي عبد الوهاب -دون أن يذكر اسمه- في خبر نشرته صحيفة “الجمهورية” المصرية بسرقة لحنه “خي” من أغنيته “سهرانة عيوني سهرانة” وكذلك بتشجيع عبد الوهاب شركات الأسطوانات الأجنبية وتضييع مبالغ كبيرة من العملات الصعبة، مع أن إنتاج شركته التي أنشأها لا يقل جودة عن أي مصنع عالمي آخر، لتتجدد معارك محمد فوزي مع محمد عبد الوهاب ثانية عام 1960 من خلال أغنية نجاة الصغيرة “أيظنّ” بعد أن كانت مدة احتكار شركة عبد الوهاب لصوتها على وشك الانتهاء، فأراد فوزي طبعها على أسطوانات شركته، وحصل على ترخيص بذلك من قبل جمعية المؤلفين والملحنين، لكن عبد الوهاب ساوم نجاة الصغيرة بأنه لن يعطي لها موافقته على تسجيل الأغنية إلا إذا احتكرت شركته صوتها، وسارع إلى اتخاذ الإجراءات القانونية ضد فوزي لمنعه من تسجيل الأغنية، فحدث خلاف كبير بينهما من أجل ذلك، وتدخلت نجاة الصغيرة شخصياً لدى فوزي طالبة منه السماح لها بغناء القصيدة من خلال شركة عبد الوهاب.

وكان محمد فوزي ومحمد عبد الوهاب على موعد مع خلاف قضائي جديد بسبب أغنية “ناصر” التي لحنها عبد الوهاب وغناها، وأبدى فوزي استياءه من الطريقة التي غنى بها عبد الوهاب هذه الأغنية الوطنية، وقال في صحيفة “الأخبار” المصرية عام 1961 إن عبد الوهاب يغني الأغنية كما غنى “لا مش أنا اللي أبكي” وإن لحن عبد الوهاب شيء وغناؤه شيء آخر، وإنه يصعب عليه أن يضيع اللحن الجميل هكذا، لذلك حصل على موافقة جمعية المؤلفين بإعادة تسجيل الأغنية، لكن عبد الوهاب استطاع من خلال حكم قضائي أن يوقف استغلال فوزي للأغنية، وبالمقابل قام فوزي برفع دعوى قضائية مستعجلة لوقف الحكم الذي صدر لمصلحة عبد الوهاب وتثبيت حقه الذي يخوّله تسجيل أية أغنية من أغنياته واستغلالها على أسطوانات ما دام سيدفع أجره كاملاً عن لحنه، فكسب فوزي هذه الجولة القضائية باعتبار أن عبد الوهاب كان قد أعطى توكيلاً بالتصرف بجميع ألحانه، وأنه بحكم هذا القانون لا يملك إلغاء ذلك التوكيل قبل نهاية العام 1968وظلّت الجولات القضائية قائمة بين الطرفين حتى حصل عبد الوهاب عام 1962 على حكم نهائي من المحكمة بمنع فوزي من غناء أغنية “ناصر”.

منيرة المهدية وأم كلثوم

عندما بدأ اسم أم كلثوم يلمع في مصر في العشرينيات لم يكن في مصر سواها تضاهي سلطانة الطرب منيرة المهدية التي كانت تُعدّ واحدة من ألمع نجوم الفن في النصف الأول من القرن العشرين، وقد ظلّت متألقة إلى أن ظهرت أم كلثوم وسطع نجمها، ويروي الكاتب مصطفى أمين قصة استغلال منيرة المهدية لأحد الصحفيين وصاحب إحدى المجلات للقضاء على أم كلثوم بنشر مقالات تهاجم أم كلثوم تحت ذريعة أن أم كلثوم لها مئات “العشاق” وتحولت المجلة إلى لسان حال منيرة المهدية بقلم هذا الصحفي الذي كتب عام 1927 أن ” أم كلثوم نجمها قد غرب”.

عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش

ويعدّ النقاد خلاف عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش الأشهر في الوسط الفني وكان مادة خصبة للصحافة الفنية في وقتها، فعلى الرغم من الصداقة القوية التي جمعت بينهما إلا أنه حدث ما عكَّر صفوها، إذ كان حفل ليلة شمّ النسيم عام 1970 سبب الخلاف بينهما، وقبل ذلك كان فريد الأطرش قد غادر مصر واستقر في بيروت منذ العام 1966 وطيلة فترة غيابه كان عبد الحليم حافظ ينفرد بإحياء هذه الليلة التي احتكر الأطرش الغناء فيها لمدة 25 سنة، وقد اعتاد أن يقدم أغنيته الشهيرة “الربيع” لكن بعد عودة الأطرش إلى القاهرة عام 1970 بدأ الخلاف بينهما، حيث كان حافظ يعتبر إحياءه ليلة شم النسيم طيلة مدة غياب فريد الأطرش عن مصر حقاً مكتسباً، في حين أن فريد الأطرش كان يرى أن حفل شم النسيم هو حفله، وأصرّ كل واحد منهما على الغناء في نفس الليلة مما أحدث شرخاً في صداقتهما رُمّم بطرق مختلفة من قبل الأصدقاء بحيث قام كل منهما بالغناء في اليوم ذاته ومن ثم تم جمعهما في لقاء تليفزيوني، وفيه قال حافظ إنه لا يصح أن تتم مقارنته بالموسيقار الكبير فريد الأطرش لأنه أقل كثيراً من أن يتم وضع اسمه بجانب اسم الأطرش لأنه من جيل الأستاذ محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ من جيل تلامذته، أما فريد الأطرش فكان ردّه أنه يقدّر عبد الحليم حافظ ويحبه، قائلاً: “لا نسأل عما يُكتب في الصحف، ولكن نسأل عما نقوله الآن أمام الجمهور”.. وروت بعض المصادر أن جزءاً من الخلاف بين عبد الحليم حافظ فريد الأطرش كان سببه الفنانة سعاد حسني، فبعد نجاح فيلم “أبي فوق الشجرة” قرر حافظ إنتاج فيلم جديد تكون هي بطلته، وفي الوقت نفسه قرر الأطرش إنتاج فيلم يحمل اسم “وجاء الربيع” بعد نجاح فيلمه “الحب الكبير” واختار سعاد حسني بطلة له، وأعلن أنه سيبدأ التصوير في نفس الوقت الذي صرح فيه حافظ أن التصوير سيبدأ، وعندما علمت سعاد حسني أن التصوير سيكون في الوقت ذاته اعتذرت عن فيلم فريد الأطرش مما أزعجه مؤكداً أن قرارها جاء بتأثير ممن حولها.

أم كلثوم ومحمد الموجي

بدأت العلاقة بين الملحن محمد الموجي والسيدة أم كلثوم من خلال قصيدة شعرية بعنوان “الجلاء” للشاعر أحمد رامى، وتوطدت العلاقة الفنية بينهما وطلبت منه تلحين أغنية عاطفية، وكان أول من استعانت به أم كلثوم كملحن جديد غير رياض السنباطي وزكريا أحمد، فلحّن لها أغنية “اسأل روحك” ومن ثم “للصبر حدود” ووقّع لها عقداً بإنهاء اللحن خلال شهر، لكن نظراً لطبيعته في إنجاز ألحانه تأخر لمدة ستة أشهر، ليفاجأ بدعوى قضائية مرفوعة عليه من أم كلثوم، وعندما توجه إلى المحكمة تحدث إليه القاضي قائلاً: “أنت أخلّيت بالتزامك في العقد” فردّ عليه الموجي أنه يحتاج إلى وقت لأن من يريد أن يلحن لأم كلثوم يجب أن يكون لديه الوقت الكافي لفعل ذلك وليليق اللحن باسمها، فاقتنع القاضي بكلامه ورفض الحكم عليه.

 

محمد الموجي وعبد الحليم حافظ

وقع محمد الموجي أيضاً في خلاف حادّ مع الفنان عبد الحليم حافظ أدى إلى قطيعة لفترة من الزمن بسبب لحن لأغنية أعدّها الموجي ليغنيها حافظ، وبسبب تأخر الأخير بتسجيلها لعدة سنوات بسبب انشغاله بألحان بليغ حمدي قام الموجي بمنحها لمطرب آخر مما أدى لوقوع خلاف حاد بينهما، تكرر مرة أخرى لكنه حُلّ بطريقة طريفة، حيث كان على محمد الموجي تلحين أغنية لعبد الحليم حافظ لكنه ظل يعمل عليها لأربع سنوات، فقرر حافظ حبسه في غرفة في فندق، وقال إنه لن يخرجه حتى ينتهي من تلحينها، فكانت أغنية “قارئة الفنجان” وهي آخر ما غنّى عبد الحليم حافظ.

نجاة الصغيرة وفايزة أحمد

اشتدّت المنافسة بين الفنانتين نجاة الصغيرة وفايزة أحمد على الساحة الفنية المصرية عام 1972 وتناقل الوسط الفني أنباء عن اشتداد الخلافات بينهما بسبب تقرّب نجاة الصغيرة من محمد عبد الوهاب واقتناصها العديد من ألحانه الرائعة، فقلّ تعاونه الفني مع فايزة أحمد التي اتهمته بأنه يساند نجاة الصغيرة على حسابها، لكنها تدريجياً استطاعت أن تصبح المطربة المفضّلة عنده بعد أن استغلت خلافه مع نجاة الصغيرة بسبب رفضها العمل في فيلم من إنتاجه، وأخذت منه خمسة ألحان رائعة أسهمت في نجوميتها.

كما كانت الغيرة الفنية بين الفنانتين صباح وفايزة أحمد سبباً للعديد من الخلافات التي شهدتها الساحة الفنية، ووفقاً لتصريحات صباح في أحد حواراتها عام 2010 أن فايزة أحمد تلقت ثلاث صفعات، منها ما كان شاهداً عليه محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وأن مشادّة كبيرة حدثت بينهما في إحدى الحفلات عندما أصرّت فايزة أحمد على أن تغنّي قبل صباح.

وتذكر المصادر أن خلافاً شديداً نشب بين فايزة أحمد وعبد الحليم حافظ بسبب أغنية “أسمر يا أسمراني” التي غنتها فايزة في فيلم “الوسادة الخالية” الذي قام عبد الحليم حافظ ببطولته، ونجحت الأغنية نجاحاً كبيراً، لكن عبد الحليم حافظ عاد وقدمها بصوته دون الرجوع إليها وهو ما أغضبها بشدة لتعود بعد فترة ولتقدم أغنية ساخرة بعنوان “هاتولي وابور الحريقة” على نفس لحن أغنية “قولوله الحقيقة” التي قدمها عبد الحليم حافظ، الأمر الذي تسبب في زيادة الخلاف بين الاثنين والذي أدى إلى أنهما كانا يرفضان المشاركة في أي حفلة معاً إلى أن انتهى الخلاف بينهما عام 1973.

وردة الجزائرية وميادة الحناوي

كشفت الفنانة وردة الجزائرية قبل وفاتها أن المطربة ميادة الحناوي كانت سبباً في ابتعادها عن الموسيقار بليغ حمدي لرغبتها في أغنية “مش عوايدك” التي قدمها حمدي للحناوي، في حين صرحت ميادة الحناوي في أحد حواراتها أن وردة الجزائرية كانت سبباً رئيسياً في منعها من دخول مصر، وبأنها وبمساعدة زوجة الموسيقار محمد عبد الوهاب تسببت في منعها لمدة ثلاثة عشر عاماً من الغناء في مصر، وكذلك في منع إذاعة أغانيها من الإذاعة المصرية، كاشفة أن أغنية “في يوم وليلة” كانت لها قبل أن تغنّيها وردة الجزائرية.

بناء على ما ورد أعلاه فإن المنافسة بين المطربين والمطربات وصراعهم على الألحان المتميزة قد يجعل هناك غيرة قوية بينهم، ومن الصعب أن نجد في مجتمعاتنا علاقات فنية بين الفنانين لا تتحكم بها الأنانية، ومن الصعب أن نجد اثنين من المطربين على وفاق حتى لو كانا يسيران معاً وتُلتقط لهما الصور.