مجلة البعث الأسبوعية

“تويتر” كاندينسكي نغمات دورانية بتغريدات لونية

غالية خوجة

لم يتوقّع أنه سيسمع موسيقا ألوانه، ليرسم ذبذباتها بتجريدية ابتكرها في موسكو واتسعت روحانيتها الشرقية مع زياراته إلى بلدان الشرق ومنها سورية ومصر وتونس ، عاكساً تجربته من خلال شخصيات أعماله سواء كانت واقعية أو رمزية، ومن ثم ليدمجها مع الحالة النفسية للذوات وبيئتها وتحولاتها الصامتة المرئية المتحركة في دوران مدمن على التحليق مع الأعماق التي لا تنتهي، وكأنها الكون يقبض على مداراته المتعددة في فضاء تبرز فيه مهارة التشكيلي الروسي فاسيلي كاندينسكي وهي تعكس لنا موسيقا الفصول الخمسة، إذا ما اعتبرنا الروح فصلاً خامساً نابضاً بإيحاءات المطر والثلوج والهدوء الخريفي والحرارة الصيفية والرؤيا المزهرة، وتبدو خلفية لوحاته الزاهية فضاء حلمياً، خفيفاً يفتقد الجاذبية الأرضية، لدرجة أن الحلم يصبح جاذبية الحالم كضمير للفنان متوزع إلى شخصيات متعددة، جاعلاً من الألوان ودلالاتها العلائقية المتشابكة عالماً مدمناً على التحليق اللا نهائي عبْر الأزمنة والأمكنة.

وهذا ما ترمز إليه عناصر مختلفة في لوحاته ومنها لوحته “تفاهمات متبادلة” المتشكّلة من رموز ومعان ونغمات مشتبكة مع الحلم وشخوصه، والألوان وموسيقاها، والأشكال الهندسية وإيحاءاتها، والدلالات الزمانية وتداخلاتها، ومنها الهلال المتشكّل مثل ريشة، وأرجوحة، وسرير وطائر، والعوامل الرمزية للمكانية وإيماءاتها، ومنها البيانو، السلّم الموسيقي الرمزي، الحركات الروحية للطاقة الكلية للوحة الفنية.

 

كولاجات موسيقية

أمّا كيف تشكّلت العناصر الكولاجية الموسيقية في هذه اللوحة وغيرها من أعماله؟. تجيبنا الأشكال التجريدية البارزة كمبانٍ وأبراج وبيوت ونوافذ، والتي تبدو من زاوية المشاهدة التزييغية الأخرى وكأنها أقنعة للشخصيات على منصتها الحالمة، تحكي ما تخفيه البيوت بحوارات ديالوغية صامتة، أو مونولوغية صائتة، لتسرد ما يدور في خواطر ونوايا ساكني اللوحة.

ولأن دلالات اللوحة لا تتوقف عند نقطة معينة من المعنى، فإن المعنى يمتد ويتمدد، ويأخذنا إلى رؤية أخرى للمباني كشخصين متقابلين، تأنسنتْ معهما الألوان، وتوزعت أحلامهما إلى عدة شخوص تحلق بعيداً، تاركة للمتلقي أن يفك شيفرة الحالة النفسية اللونية، والأبعاد الروحية، والأشكال الهندسية سواء كانت دائرية أو مستطيلة أو مثلثة، إضافة إلى المتناثر من رموز المكان كالأقلام والطاولة والكتب والريشة والأقواس والسهام.

وضمن المكونات المتناسقة الحضور والإيقاعات المتنوعة، يأخذ اللون الأزرق امتداداته المطمئنة، عابراً الدوائر وألوانها بتصريح وتلميح، ليشتبك، ومن خلال الحيز الغائب لنص اللوحة، مع ألوان الدوائر المتنوعة، ومركزيتها الأحمر، ثم الترابية والبحرية والبنفسجية والصفراء والبيضاء، فلا يبدو في هذا العالم سوى تشكّلات الخطوط الملونة وفضاءاتها الأخرى القابلة لقراءات مختلفة، مستندة على موسيقى تتناغم مع القصص، وتجعل كلاً منا يؤلف نصوصه الأخرى من خلال ما توحي به المسافة العميقة التي يبصرها في اللوحة، ومنها: المباني المتشخصنة بفضائها المحيط باللوحة وهي توحي باختلاط الليل والنهار، مما يجعل زمن اللوحة لا نهارياً ولا ليلياً، بل زمناً فنياً لونياً عازفاً ممتداً، ينطلق من اللحظة التي رسم فيها كاندينسكي هذه اللوحة من مرحلته الفنية الأخيرة، المعتّقة بمزجه بين الانطباعية التأثيرية والحلمية والتجريدية، جاعلاً من شبكة الاحتمالات نصاً آخر قابلاً للقراءة، وقابلاً لإنجاز عنوان اللوحة “تفاهمات متبادلة”، بما في هاتين الكلمتين من تفاهمات تسعى إلى التقارب والتعايش والمحبة والطمأنينة والسلام، وهذا ما تؤكده، أيضاً، المفردات المنجذبة إلى الدائرة الحمراء المركزية التي قد تكون الشمس وهي جنين، وما يتحرك في محيطها مع الجاذبية الأرضية من سلّم لوني وموسيقاه، وما ينتثر حولها من دوائر وأقنعة ومبان، وما يجتمع في شخصية الحلم والحالم الأشبه بكيوبيد وهو يطلق أسهمه في كل مكان، فينتج عنها ألوان الطاقة اللا مرئية، وهي سر من أسرار أعمال الفنان فاسيلي كاندينسكي، وسر من أسرار الفنون الخالدة اللغوية واللونية والإبداعية الأخرى.

الزمن يتشكّل لونياً

بينما تجيبنا لوحته الماندالا عن تواتر الدوران المحاط باللون الأبيض كأفق كوني بلا حدود يليه الأصفر المشع بالطاقة والابتهال ثم نلمح تدرجات الأزرق والبرتقالي والأحمر المتناثرة هنا وهناك لتحكي لنا عن نهارين متداخلين بين الأنا والعالم، فينبض القلب جاذباً محيط اللوحة وموجاته إلى الداخل ليوصلنا إلى المركز فينكمش الدوران في نقطة غائرة لكنها تدور لتعود وتنتشر بانتظام مجددة دورانها بعدما تكون قد جمعت الأرض بمبانيها وناسها، لتنفلت إلى السماء، وتظل تمارس مولويتها الإشراقية.

الماندالا تدور كوحدة، وأجزاؤها تدور كوحدات مصغّرة داخلها، وحركة الدوران مجتمعة تُنتج موسيقاها النقية الخالصة وألوانها التي تنطلق من المركز إلى الحواف المتدرجة مع الأزرق والأخضر والأسود والأحمر والبرتقالي والأصفر إلى أن تتحد مع لونها الأبيض الصافي المتداخل مع شكل قرصه المتشكّل من ثمانية مثلثات تتجه رؤوسها إلى الخارج، بينما تلاقي أضلاعها فيشكّل ثمانية مثلثات رؤوسها إلى الداخل، وتبدو بكل يقين، مستوحاة من الزخارف العربية الشرقية الإسلامية وهي تنقش حركتها الزخرفية بمسافات زمنية إيقاعية تنتثر وروداً على المدارج والسلالم الفارغة إلاّ من خطوط  سوداء تعترض الإيحاءات بهبوبها كأشخاص تعبر، تهبط، تصعد، وتدور، لكنها تلتحف الكفن في النهاية لتغادر إلى دوران آخر مع حركتها المولوية وأناشيدها الصوفية العميقة الغائرة إلى بواطن الذات وبواطن السماء في آنٍ معاً.

وتتضمّن هذه اللوحة العديد من العناصر التجريدية، منها القبة، والهلال، والقبر، والمباني، والقوارب، والأشجار، والعيون، والجبال، والبحار، وما يختلج في هذه العناصر من نبضات يعكسها بطلها الذي يتألف منها ألا وهو الإنسان الباحث عن نفسه وروحه ضمن هذا الصخب الصامت بروائحه الملونة بالبنفسجي واللازوردي والترابي والأصفر، وبروائح الزمان بحضورَيْه الليلي غير مكتمل العتمة، والنهاري المتدرج بألوان التفاؤل والحياة.

و بالمقابل، نلاحظ أن الكتلة الأساسية للوحة وفراغها عالم مؤلف من المياه التي يسبح فيها الزمان ليصير جزءً من مكونات اللوحة بمبانيها وأخشاب قواربها وشخصيتها المؤلفة من الذات الجمعية أيضاً، وما يظهر منها من درامية، بينما يترك الزمان أجزاءه الأخرى بين العناصر الكونية ليتداخل صوت الهواء مع دوران التراب مع هسيس النار، ويغطس مرة أخرى ليتعمّد، ويصلّي، ويتمدّد مع نبضات الألوان انقباضاً وانحباساً ضمن مولوية متجددة.

تغريدة كاندينسكي مدمنة اللانهائي

وإذا ما تأملنا في أعماله الأخرى، فلا بد أن تلفتنا لوحته الطائر المغرد، ليتبادر إلى الأذهان أن طائر تويتر التكنولوجي ينتمي لكاندينسكي بمفهوم ما، واعتماده على تغريداته اللونية المفرحة شكّلت أول معزوفة للتواصل الاجتماعي بين الفنان ومتلقي اللوحة، وجعلته يفكّ رمزية الزقزقة وصوتها الملحّن بطريقة تشكيلية رقمية وهندسية وخطية تتألف من دلالات السعادة وألوانها الزاهية وخلفيتها البيضاء ودوائرها الملونة وشمسها المائلة إلى شكل القلب مع ثلاثة خطوط سوداء أقرب إلى السلّم الموسيقي وأوتار آلة العود الذي نزحت عنه علاماته الموسيقية إلى أماكن أخرى من اللوحة ليؤلفها المتلقي كشريك متفاعل سيضيف إليها التكوينات الأخرى من ظل طائر خرافي، ومقدمة باخرة، وغيوم، وعيون، وهرم، وذراع آلة العود، وحرف F البرتقالي مضافاً إليه الرقم واحد الأزرق وكأنه أيقونة حرفية للحاسوب (F1) تحلق ضمن رجفة قلبين مشعّين على يمين اللوحة، إضافة إلى ملامح تضاريسية لونية، وحالات إنسانية متداخلة، وجميعها أشكال لتلك التغريدة المفككة القابلة للتركيب تبعاً لكل متلقّ.

موسيقا الكون التجريدية

وعندما تتناثر أوتار القيثارة بين أجزاء الوجوه التي تبدو منها ملامح جانبية للأنف والعين والفم، واتجاهها المحدق في الشمس آنَ الشروق، فاعلم أن كاندينسكي يرحل بنا إلى داخل الإيقاعات التي تجري مع دمنا وتصل إلى الدماغ الذي يرسمه بألحان تفوح من أصابع البيانو في أعلى اللوحة من اليسار، ليخبرنا بأن الأبيض نهاراتنا والأسود ليالينا، ونحن نطلّ منها على هذا الكون بتشكيلاته الخضراء، وتشكّلاته المتماوجة بين الدائرية والمثلثية والرباعية والمستطيلة، وخطوطها المتوازية، والمتعرجة، والمتلاشية، والهائمة بين بصر ورمش وطمأنينة تعزف نغماتها المطلّة على تضاريس جيولوجية تشبه ما يظهر من خرائط الكترونية على الشاشات والأقمار الصناعية ومنها “غوغل” مثلاً، لتعود وتنعكس موسيقياً على مرايا الداخل بهيئة دائرة بيضاء داخل الجمجمة التي يبدو منها وجه خرافي بملامح “غامزة” تشكلت إحدى عينيها من أوتار القيثارة وهي تغمض جفنها، بينما اتخذت عينها الأخرى شكلاً دائرياً يلتقي مركزه مع نقطة تلاقي خطين أسودين أحدهما أفقي وثانيهما عمودي، مما يجسد النغمات وهي تتفاعل لتقنص لحظاتها التأملية من موسيقا الأرض وألحان السماء وتصوغ تشكيل هذا العالم.

 

ولهذه الروحانيات أشعتها التي لا تنضب لدى كاندينسكي المولود عام 1866 في موسكو، والذي دمج خبرته الموسيقية في تجربته التجريدية، وسمع موسيقى كل لون، وجعل منها أوركسترا لونية على درجة عالية من الهرمنوطيقيّة بفلسفتها التأويلية القصوى، والهارمونية بإيقاعاتها ومساحات وقْعها المتميزة، مما جعل التناسق بين المنظور واللا منظور فضاء متوازناً، تحكمه ثقافة موسيقية لونية متجذرة في الطاقة الروحية الإنسانية، ومتحركة بين الوضوح والغموض، ولذلك، تتميز إيقاعاته اللونية بنبضات متناسبة مع اشتباكات الدلالات، التي يضيف إليها أشكالاً هندسية مختلفة تعكس انتماءه اللوني إلى آلة البيانو والآلات الوترية، وهو رائد الفن الحديث القائل: “اللون هو لوحة المفاتيح، العيون هي التناسق، الروح هي البيانو متعدد الأوتار، الفنان هو اليد التي تعزف، تلمس مفتاحاً هنا أو هناك لتبدع اهتزازات روحية لا تتوقف”.