الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

الثقافة الإنسانية

غالية خوجة

ماذا تعني الثقافة الإنسانية؟

لا نريد تعريفاً نظرياً وفلسفياً، بل سلوكاً واقعياً يجسّد مفهومنا للتعامل الإنساني في كافة المجالات والعلاقات والأمكنة، لأن الإنسانية ثقافة ترسخ في القلب وتجسّدها الأفعال ومحورها المحبة والتوادد والتراحم، ولها علاقة وثيقة بالتنشئة والتربية والقيم المحبّبة كالصدق والأمانة والاحترام والكرامة والشهامة والذوق والتواضع والآداب المنعكسة كسلوك في المقبرة والشارع والمدرسة والبيت والمشفى والجامعة والمسرح وحضور الأمسيات والمعارض، وتناول الطعام في البيت أو المطاعم والمقاهي.

من جملة ما ينقص البعض هو منهجية “الثقافة الإنسانية”، وبوصلتها “الثقافة التربوية” المنطلقة من العائلة فالأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والزملاء والمعارف وتكملها المدارس والمعاهد والجامعات، تليها الحياة العملية للإنسان بين أسرة جديدة وعمل وما بينهما من اتساع الدائرة المجتمعية.

وبالضرورة، لا تقلّ طريقة التعامل مع العالم الافتراضي بكافة وسائله عن هذه الثقافة، لأنها تعكس الأصالة التي يستمدها الفرد من جذوره وبيئته، لأن أي مقول وسلوك ومنطوق هو نحن، وما تربّينا عليه، وهو الدليل علينا كما الظل دليل على الشمس، والعطر دليل على الورد، والمطر دليل على الغيم.

ترى، هل مجتمعنا ما زال لامعاً بتلك الثقافة التي تشعر بالآخرين، تماماً، كما تشعر بذاتها؟ هل آلامنا واحدة؟ لماذا البعض يزيد جراح من يتألم ويكون له ألماً جديداً؟ أليس من الأولى أن يكون حيادياً على الأقل إذا لم يرد أن يكون إيجابياً؟ كيف نتساعد في هذا المجتمع على رفع ظلم بعضنا عن بعض؟ ومتى سيفكر ذو المال بواجبه الإنساني تجاه المقتنع بقوتنا كفاف يومنا؟ بكل تأكيد، هناك من يمتلك هذه الثقافة الإنسانية الإيجابية لكنهم قلة، لأن الظاهرة الغالبة التي لم يعتد عليها إنساننا الطيب أصبحت “أنا ومن بعدي الطوفان”، وهذه “الأنا” بحدّ ذاتها ليست بعيدة عن الطوفان أيضاً، ولربما أصيبت به قبل الجميع، ومن لا يصدّق فليسأل الأحداث والكوارث التي مرّت على الكرة الأرضية ومنها الزلازل.

مجتمعنا الطيب الصابر معتاد على التعاون والتعاضد والتراحم والإنسانية، وهو بحاجة إليها أكثر من ذي قبل في هذا الزمان، وهذا ما على الجهات المسؤولة أن تفعّله أكثر تجاه هذا المجتمع وهذا المواطن، وأضعف الإيمان أن يتمّ تحديد أسعار السلع لا أن يتغيّر السعر بين ساعة وأخرى، ويوم وآخر، خصوصاً، وأن الناس لا تملك المال الذي يساعدها على قوتها الذي هو كفاف يومها، إضافة إلى ضرورة تطبيق القانون كما يجب على المفسدين والمحتكرين ومافيات الأقوات والأسواق.

كيف يمكن للضمير أن يكون حسيباً على الضمير؟ وكيف يمكن التعامل مع ضمير لا ضمير له، ضمير بلا ضمير؟.

من يتجوّل بين الشوارع والأزقة سيلتفت إلى هؤلاء البسطاء الذين ما زال الحياء يشعّ من وجوههم مثل أسئلتهم عن كيفية تصريف شهر قادم من عمرهم، ومنهم الأطفال الذين يعملون في أية مهنة ليساعدوا أنفسهم وأهاليهم، لعلّ الشهر القادم يمرّ بسلام، ومنهم النساء اللواتي يبعن بعض السلع البسيطة، أو يطرقن بخجل شديد أبواب المحلات، ومنهم رجال هرمون، وشبان تبدو عليهم الحاجة، ومنهم من امتهن التسول، أو بيع السلع بالإكراه والإجبار والتخجيل، ومنهم من رأى في مهنة النبش باب رزق يغنيه عن مدّ يده، فتراهم عجائز مغلوبين على أمرهم، أو شباناً وأطفالاً، وصدف أن مررت قرب نباشين قريبين من سن اليفاعة وقلت لهما: “يعطيكم العافية”، فردّا عليّ: “الله يعافيك روحي”! وكان مشهداً مؤثراً لأن الظروف التي أجبرتهما على هذه المهنة لم تجعلهما يتخليان عن ثقافتهما الإنسانية في التعامل مع الناس، لكن كيف نؤدي لأمثالهما الحقوق؟.