خلاصات تجربة مئوية
سلوى عباس
في كتاب “دروس قرن من الحياة” للكاتب إدغار موران ترجمة د. خليد كدري، والصادر عن دار دونويل في باريس عام 2021 بمناسبة احتفاء الكاتب ببلوغه المائة عام، نقل لنا المؤلف خلاصات تجربته المئوية في الحياة قسّمها لسبعة فصول ويبدأها بـ”ديباجة” جاء فيها: “ليكن مفهوماً أنني لا أضيف ها هنا دروساً لأحد، وإنما أحاول أن أستخلص دروس تجربة حياة قرنية ودنيوية، راجياً أن تكون مفيدة لكل امرئ لا في مساءلة نفسه عن حياته الخاصة فحسب، ولكن في العثور على طريقه الخاص أيضاً”.
في الفصل الأول يتحدث موران عن هويته الواحدة والمتعددة فيقول: وعيت هويتي الواحدة والمتعددة على نحو متدرج، لم يكن أبواي المهاجران يحملان هوية قومية، كانا يحملان هوية إثنية- دينية سفاردية، وهوية مدنية هي سالونيكا، واحة السلام في الإمبراطورية العثمانية منذ 1492 حيث كان معظم سكانها من اليهود. ويتساءل موران: من أنا في نهاية المطاف؟ ليجيب: “لستُ مجرد جزء ضئيل من مجتمع، ولحظة فانية في الزمن الذي يمضي. إنّ المجتمع من حيث هو كلٌ بلغته وثقافته وعاداته يوجد داخلي، وزمني الذي عشته في القرنين العشرين والحادي والعشرين إنما يوجد داخلي، أنا إنسانٌ واحد من جملة ثمانية مليارات إنسان، أنا فردٌ فريد وعادي، مختلف عن الآخرين وشبيه بهم في آنٍ معاً، وإنّ نبذ الهوية الأحادية أو المختزلة، وإدراك وحدة – تعدّد الهوية يعدّان من لوازم الصحة العقلية الكفيلة بتحسين العلاقات الإنسانية”، وبالنهاية عشت هويتي المتعددة لا بوصفها شذوذاً، بل بوصفها ثروة تتعاقب هذه الهويات على أنحاء شتى من حياتي.
يرى موران في الفصل الثاني من الكتاب أن كل حياة هي غير يقينية إذ لا تفتأ تواجه ما لا يتوقع، فقد يتحول الحظ التعيس إلى حظ سعيد، كما قد يتحول الحظ السعيد إلى حظ تعيس، فرب ضراء عادت بمنافع ورب شقاوة أثمرت مسرة، مضيفاً: “إن تعذر إلغاء العارض في كل ما هو إنساني وعدم اليقين الذي يسم مصائرنا، ولزوم ارتقاب ما لا يرتقب، هو أحد الدروس الكبرى التي استخلصتها من تجربتي في الحياة.
في الفصل الثالث يتحدث موران عن “فن العيش” ويبدأ هذا الفصل بقول (امنح الحياة لأيامك بدلاً من منح الأيام لحياتك) لريتا ليفي- مونتالشيني، فمن وجهة نظره (أن يعيش المرء معناه أن يكون قادراً على التمتع بالإمكانات التي توفرها الحياة)، إذ يجمع فن العيش بين التشوف إلى الحياة الحقيقية وحاجة المرء إلى تحقيق تطلعاته الشخصية في دائرة العلاقة الدائمة بين الأنا و الـ نحن، ونوعية الحياة الشعرية علاوة على إشباع الرغبة في الاعتراف، ويضيف المؤلف أنه لا توجد وصفة لفن العيش مثلما لا توجد وصفة للسعادة، لكن توجد في بعض الأحيان أمثلة، والتطلع إلى فن العيش يكون واعياً بالأقل والأكثر في كل واحد فينا، ماذا نفعل بحيواتنا يا ترى إذا لم نحافظ على فن العيش بلا هوادة.
كما كانت أسئلة كانط الثلاثة تراود الكاتب تلقائياً قبل أن يعرف عنها شيئاً، مثل ماذا يمكنه أن يعرف، وماذا يجب عليه أن يفعل، وماذا يحق له أن يأمل في فصل “التعقيد الإنساني” فيجيب: “كنت أميل إلى التساؤل عن التاريخ والوضع الإنساني، والدرس الكبير الذي استخلصته من ذلك هو أن كل هوى يجب ألا يخلو من نور العقل المستعد للهداية، وأن كل عقل يجب ألا يخلو من الهوى وقوداً له وطاقة اشتغال، وكنت أدرك أن أعظم الأمور المجهولة للمعرفة يتمثل في المعرفة نفسها.
وعن تجاربه السياسية يقول: الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة هي درس اللاوعي السرنمي الذي يسم العصور السابقة الممهدة للفواجع التاريخية، إنه درس العواقب الجسيمة المترتبة عن الأخطاء وضروب العمى وأوهام القادة والشعوب، إنه درس العجز العام عن استيعاب طابع الشمولية الجديد، لاسيما العجز عن فهم رغبة ألمانيا الهتلرية العنيدة في السيطرة على أوروبا واستعمارها.
وعن تجاربه السياسية والمخاطر الجديدة التي واجهها فيتحدث عن العالم الطبيعي والبيولوجي اللذين تقترن فيهما قوى الارتباط والاتحاد بقوى التشتت والدمار، ويدعو موران إلى نمط من الإنسية الجديدة كحل ممكن لهذه المعضلات.
كما يرى في الفصل السابع الذي عنونه بـ “خطأ الاستهانة بالخطأ” أن كل حياة هي مغامرة محفوفة بعدم اليقين، يمكن أن نخطئ في اختياراتنا على كل الصعد الحياتية، إذ يلاحقنا شبح الخطأ خطوة بخطوة، ويتحصل من ذلك أن المعرفة فن صعب وأنه يمكن أن يسند بمعرفة مصادر الخطأ والوهم إلى جانب المراجعة الآتية والنقد الذاتي.
لقد قدم لنا موران في هذا الكتاب خلاصة تجاربه محاولاً أن يرسم معالم حياته الخاصة ومعالم تطور فكره انطلاقاً مما خبره وعاشه طيلة قرن كامل.