مجلة البعث الأسبوعية

وثائق مسربة من جهاز الاستخبارات الأمريكية “الصندوق الوطني للديمقراطية” يتحضر لثورة ملونة في إندونيسيا

البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة

كشفت الوثائق التي تم تسريبها مؤخراً، عن دور “الصندوق الوطني للديمقراطية” في التحضير للاستيلاء على السلطة في إندونيسيا، وذلك في أعقاب الانتخابات المقبلة، حيث ستكون إندونيسيا في شهر شباط المقبل على موعد مع انتخابات رئاسية جديدة.

ومع اقتراب موعدها تحتدم المنافسة بين المرشحين والمتطلعين للحلول مكان الرئيس الحالي جوكو ويدودو المحبوب شعبياً، ذلك أنه لا يحق له الترشح لفترة ثالثة عملاً بأحكام الدستور، وحتى ذلك الحين يستعد “الصندوق الوطني للديمقراطية” للاستيلاء على السلطة في أعقاب رحيل الرئيس جوكو ويدودو.

تقدم الوثائق رؤية متعمقة لطريقة عمل “الصندوق الوطني للديمقراطية” خلف الكواليس، والتي يمكن من خلالها استخلاص استنتاجات واضحة حول أنشطته السابقة والحالية في أماكن أخرى. وتفيد تقديرات الصندوق الوطني نفسه، بأنه يعمل في أكثر من 100 بلد، ويقدم ما يزيد عن 2000 منحة كل عام.

وفي إندونيسيا، ساعدت هذه المبالغ على توسيع نطاق عمله ليشمل العديد من المنظمات غير الحكومية، وجماعات المجتمع المدني، والأهم من ذلك، الأحزاب السياسية والمرشحين من مختلف الأطياف الأيديولوجية.

يرى مراقبون أن هذا الرهان واسع الانتشار إلى حد ما، قد يؤدي لضمان خروج الأصول الأمريكية بطريقة أو بأخرى منتصرة في شباط القادم. ومع ذلك، فإن جيشاً حقيقياً من عملاء “الصندوق الوطني للديمقراطية” في الميدان مستعدين أيضاً لتحدي النتائج، إن لم يكن قلبها في حالة فوز الأشخاص “الخطأ” بحسب زعمهم.

فقد تم بالفعل توزيع المنح الشخصية ــ أو بعبارة أخرى الرشاوى ــ من الصندوق سراً على البعض من أجل تنظيم احتجاجات مناهضة للحكومة.

على أقل تقدير، تعزز هذه الوثائق الاعتراف العلني لأول رئيس للصندوق الوطني للديمقراطية ألين وينشتاين عام 1991: “الكثير مما نقوم به اليوم كنا نقوم به سراً قبل 25 عاماً من قبل وكالة الاستخبارات المركزية”.

تأثير جوكو ويدودو

يعد جوكو ويدودو، أول زعيم إندونيسي لا ينتمي إلى النخبة السياسية أو العسكرية الراسخة في البلاد منذ الاستقلال الذي حققته بشق الأنفس عن هولندا في عام 1949، وفي كل خطوة كان يخطوها، حارب ويدودو البيروقراطية والفساد أثناء متابعته برامجاً لتوفير الرعاية الصحية الشاملة، والنمو الاقتصادي، وتطوير البنية التحتية، وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين، لذا قفزت حصة حزب النضال الديمقراطي الإندونيسي من الأصوات بنسبة 30% في الانتخابات التشريعية في ذلك العام بعد إعلانه أن مرشحه للرئاسة في عام  2014 جوكو ويدودو.

كما أفادت التقارير أيضاً، بأن ترشيح ويدودو حفّز سوق الأوراق المالية الإندونيسية وعملة الروبية بسبب سجله السياسي والاقتصادي المتألق، كما أعطى الرئيس الأولوية “لحماية سيادة إندونيسيا” والحد من النفوذ الخارجي في جاكرتا، علاوة على ذلك، انتهج سياسة خارجية مستقلة، الأمر الذي يثير استياء الإمبراطورية الأمريكية.

بالإضافة إلى ذلك، شجع ويدودو زعماء الدول الإسلامية على المصالحة ودفع من أجل استقلال فلسطين، وعندما استضافت العاصمة الإندونسية جاكرتا قمةَ مجموعة العشرين العام الماضي، دعا الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين للحضور، على الرغم من الانتقادات الغربية الشديدة، إلى جانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

في العديد من النواحي، يحاكي ويدودو حكم سوكارنو، أول رئيس لإندونيسيا، والذي كانت سياساته على الصعيدين المحلي والدولي مناهضة للإمبريالية، حيث عمل على منع الاستغلال الغربي لثروات بلاده الهائلة من الموارد.

وفي عام 1965، تمت الإطاحة بـ سوكارنو في انقلاب عسكري دام برعاية وكالة الاستخبارات المركزية والمخابرات البريطانية، إيذاناً ببدء 30 عاماً من الديكتاتورية العسكرية ذات القبضة الحديدية بقيادة الجنرال سوهارتو.

وفيما يستعد ويدودو الآن لترك منصبه بعد انتهاء فترة ولايته الدستورية، توضح الوثائق المسربة أن الإمبراطورية الأمريكية تستعد لتنفيذ انقلاب آخر في جاكرتا تحت مسمى “تعزيز الديمقراطية”.

فمنذ إنشاء “الصندوق الوطني للديمقراطية” في عام 1983، كانت الإطاحة بالرؤساء المناهضين للإمبريالية سبباً لوجوده، حيث أسس كبار عملاء وكالة الاستخبارات المركزية ومسؤولو السياسة الخارجية الأمريكية المنظمة لتكون بمثابة آلية عامة للدعم السري التقليدي الذي تقدمه الوكالة لجماعات المعارضة وحركات الناشطين ووسائل الإعلام في الخارج، ممن  ينخرطون في الدعاية والنشاط السياسي لتعطيل وزعزعة استقرار وإزاحة الأنظمة “العدوة” بحسب زعمهم.

على الرغم من أن التدخلات الخبيثة التي قام بها “الصندوق الوطني للديمقراطية” باءت بالفشل في الآونة الأخيرة حيث رعى “انتفاضةً” فاشلة في كوبا، وفي هونغ كونغ: موّل المتظاهرين الانفصاليين، وفي بيلاروسيا: حاول الإطاحة بالحكومة الحليفة لروسيا. ومع ذلك، يبدو بأن هذا الفشل لا يشكل عائقاً أمام المحاولة مرة أخرى في إندونيسيا الآن.

تطوير العلامات التجارية الشخصية

كانت الملفات المسربة التي تم إرسالها من المكتب الإندونيسي للمعهد الجمهوري الدولي إلى المقر الرئيسي في واشنطن خلال حزيران وتموز وآب ، 2023عبارة عن إحاطات أسبوعية. ويعد المعهد الجمهوري الدولي مكوناً أساسياً في “الصندوق الوطني للديمقراطية”، والذي يعمل عادةً مع المعهد الديمقراطي الوطني بشأن عمليات تغيير الأنظمة في الخارج، حيث يرتبط المعهدان ارتباطاً وثيقاً بالأحزاب السياسية التي تحمل الاسم نفسه في الداخل.

تقدم هذه الإحاطات موجزاً عن آخر المستجدات المتعلقة بالقضايا الإدارية، والتطورات السياسية المحلية، وأنشطة الموظفين، والمقتطفات الصحفية، بالإضافة إلى التقدم الذي أحرزه المعهد الجمهوري الدولي في تحقيق أهداف “الصندوق الوطني للديمقراطية”في إندونيسيا المتتمثلة بـ “تعزيز قدرات قادة الأحزاب السياسية الناشئة لشغل المناصب القيادية داخل الأحزاب والعمل واستخدامهم كأدوات لإحداث التغيير المنشود. وللإشارة، تُظهر آخر سجلات المنح التي قدمها الصندوق الوطني للديمقراطية” اعتباراً من عام 2022، أن المعهد مُنح 700 ألف دولار لهذا الغرض.

في كل أسبوع، كان المعهد الجمهوري الدولي يعلن عن “تواصله” مع “القادة الناشئين” في البلاد – خريجي برامج تدريب “الصندوق الوطني للديمقراطية”- وهم الآن أعضاء بارزون في عشرات الأحزاب السياسية، والمنظمات غير الحكومية المحلية ومنظمات المجتمع المدني. وفي هذا الصدد، من المتوقع أن يتقدم العديد منهم لانتخابات عام 2024، بعد أن تعلموا استراتيجيات الحملات الانتخابية وإشراك الناخبين وتحدي النتائج من قبل “الصندوق الوطني للديمقراطية”.

تنشر مؤسسة “الانتخابات والديمقراطية بيرلوديم” دوريات منتظمة تمولها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والتي “تقدم توصيات ومراجع لتحسين الإدارة الانتخابية والعمليات الديمقراطية والسياسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، كما أنها تعقد فعاليات منتظمة لأكاديمية القادة الناشئين، حيث يتم إعداد الأفراد المذكورين في وثائق المعهد الجمهوري الدولي وتعليمهم “تطوير الرسالة”، من بين مهارات انتخابية أخرى.

ووفقاً لما ذكرته إحدى الخريجات للمعهد الجمهوري الدولي فإنها بدأت في مشاركة ونشر المعلومات المتعلقة بخططها للترشح كمرشحة للمجلس التشريعي” وأصبحت الآن نشطة بشكل متزايد على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال الأدوات التي حصلت عليها من أكاديمية القادة الناشئين، تأمل في جذب المزيد من الناخبين الشباب، وخاصة الناخبين لأول مرة.

وقد تم تعزيز قدرات المعهد الجمهوري الدولي في التدخل في التصويت بشكل كبير في 12 تموز الماضي، عندما حضر النشطاء حدثاً استضافه مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، بحيث ضمت اللجنة اثنين من السياسيين المعارضين والصحفيين والباحثين، الذين حذروا من أن “التضليل” يمكن أن يؤثر على انتخابات عام 2024، ويؤدي- بشكل مرعب- إلى ظهور رئيساً مماثلاً لـ ويدودو بحسب زعمهم.

علامات بارزة

وردت إحدى المقتطفات الأكثر إثارة في الوثائق المسربة في مذكرة موجزة بتاريخ 28 حزيران الماضي، والتي سجلت كيف التقى ممثلو المعهد الجمهوري الدولي مع أعضاء رفيعي المستوى في سفارة الولايات المتحدة في جاكرتا، بما في ذلك مسؤولها السياسي، تيد مينهوفر.

نقل مينهوفر مخاوف الولايات المتحدة بشأن انتخابات عام 2024، حيث أعرب عن أسفه مدعياً أن القانون الإندونيسي يقيد الأحزاب التي حصلت على أقل من 20٪ من المقاعد في البرلمان من تقديم مرشحين للرئاسة، وأعلن أنه إذا تمت إزالة هذا المعيار سيكون هناك المزيد من المرشحين في الانتخابات، وسيكون لدى الولايات المتحدة المزيد من الخيارات، ومع ذلك، تحتاج واشنطن إلى الحفاظ على علاقات ودية مع جميع الأطراف لحماية المصالح الأمريكية في إندونيسيا، بغض النظر عن نتيجة الانتخابات.

وأضاف مينهوفر إن السفارة كانت نشطة في التواصل مع قادة حزب العمل المحلي واتحاد نقابات العمال الإندونيسي لمعرفة خططهم للاحتجاج على قانون إيجاد فرص العمل الذي وقعه ويدودو مؤخراً. وخوفاً من أن يؤدي هذا التشريع إلى إضعاف حماسة المستثمرين الأجانب في البلاد، فإن الولايات المتحدة تدعم بقوة الأنشطة المعارضة له.

وبناءً على ذلك، اقترحت السفارة سراً على رؤساء حزب العمال استغلال “فرصة” عيد استقلال إندونيسيا في السابع عشر من آب الماضي “لإطلاق احتجاجات” ضد قانون إيجاد فرص العمل والمعيار الرئاسي، كما أن السفارة كانت تدعم بشكل مستمر أنشطة المعهد الجمهوري الدولي السرية لمواصلة تنفيذ السياسات الأمريكية مع تجنب اللوائح الإندونيسية. وهذا ما حدث، كما أشارت المذكرة المرفقة بالإحاطة يومي 8 و14 تموز، فقد اتصل المعهد بقادة حزب العمال ومجموعة كبيرة من المنظمات العمالية الإندونيسية – التي يقدم لها المعهد الجمهوري الدولي منحاً صغيرة باستمرار – وناقش خططاً لتنظيم احتجاجات مناهضة لقانون إيجاد فرص العمل وقوانين المعيار الرئاسي.

تحول الاحتجاج المتعلق بقانون إيجاد فرص العمل إلى أعمال عنف، حيث تكشف الوثائق أن لموظفي السفارة الأمريكية يد طولى في إثارة الاحتجاجات العمالية الهادفة لتقويض سلطة الرئيس الإندونيسي.

استمرت الاحتجاجات المناهضة لقانون إيجاد فرص العمل في 9 آب في المحكمة الدستورية وقصر الدولة في جاكرتا، حيث تم تسجيل التغطية الإعلامية المحلية للأحداث وفقاً لإحاطة المعهد الجمهوري الدولي، والتي أشارت أيضاً إلى أن المعهد قدم منحة ثالثة بقيمة مليون روبية إلى الرئيس التنفيذي لحزب العمال بانديغلانغ من أجل هذه الجهود.

وبعد أسبوع، قدم موظفو المعهد مرة أخرى “الدعم” لفرع بانديغلانغ التابع لحزب العمال من أجل الاحتجاج “بنجاح” ضد القانونين، وحصل الرئيس التنفيذي على منحة شخصية إضافية قدرها 5,000,000 روبية مقابل هذا الإنجاز المهم.

وتشير إحاطات أخرى إلى أن العديد من المنظمات تتلقى مدفوعات مباشرة من المعهد الجمهوري الدولي لتحقيق “إنجازات” محددة، ومن بين هذه المنظمات بيرلوديم.

وفي مفارقة غريبة، تضمنت طبعة شباط 2021 من مجلة منظمة بيرلوديم مقالات تتعلق بموضوعات تشمل “التمويل السياسي وتأثيره على نوعية الديمقراطية”، “الحاجة الملحة إلى منع جمع الأموال غير المشروعة للأحزاب السياسية، التحديات التي يواجهها قانون تمويل الحملات الانتخابية وآفاقه، والمساءلة والشفافية في تمويل الأحزاب السياسية في جميع أنحاء منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

وبعد ثمانية عشر شهراً، أطلقت بيرلوديم تطبيقاً يساعد الإندونيسيين على فهم كيفية رسم الحدود الانتخابية ويسمح للمستخدمين بإنشاء نسخهم الخاصة لترسيم الحدود أو إعادة رسم الدوائر الانتخابية على النحو الذي يرونه مناسباً، ولم يتم ذكر من أو ما الذي قام بتمويل هذا المشروع التحريضي.

من الجدير بالملاحظة أن هذه الكنز المسرب يثير تساؤلات جدية حول “تمثيل” أي شخص يتلقى بشكل مباشر أو حتى غير مباشر تمويل من الصندوق الوطني للديمقراطية، حيث تُظهر الأوراق بإسهاب أن الأفراد والمنظمات الموجودة على الأرض في أي مكان يمكن حثهم على النشاط من خلال طلب صريح من سفارة الولايات المتحدة المحلية أو من فرع الصندوق الوطني للديمقراطية في أي وقت مقابل “منحة” صغيرة.

من غير المتصور على الإطلاق أن المجموعات العمالية الإندونيسية كانت ستحتج على قانون ويدودو المتعلق بإيجاد فرص العمل أو على القيود المفروضة على عدد المرشحين الرئاسيين الذين يمكنهم الترشح، لولا أن الأول قد يضر بالمستثمرين الغربيين والمصالح المالية في جاكرتا والأخير يحد من اختيار واشنطن للدمى في البلاد.

والسؤال الذي يطرح نفسه، كم عدد المحرضين الآخرين المناهضين للحكومة في جميع أنحاء العالم، سواء كانوا متظاهرين أو نقابيين أو صحفيين أو غير ذلك، ممن  يتصرفون بالمثل من أجل تحقيق الأحداث المتفق عليها سراً مع الصندوق الوطني للديمقراطية، دون أن يتوقع ذلك أي شخص؟

من المؤكد أن واشنطن تعمل لتشكيل حكومة مطيعة في إندونيسيا، فمع مناقشة قادة الجيش الأميركي علناً الحرب مع الصين في المستقبل القريب، ترى واشنطن ضرورة إيجاد حكومات عميلة، ومما لاشك فيه فإن مبادرات مماثلة جارية الآن في مختلف أنحاء منطقة آسيا والمحيط الهادئ. على هذا النحو، يرى مراقبون أن التدقيق، إن لم يكن حظر أنشطة “الصندوق الوطني للديمقراطية” بشكل كامل أصبح أمراً  ملحاً أكثر من أي وقت مضى.