ثقافةصحيفة البعث

تشاركية فنية ثقافية تراثية في معرض بدار المطرانية

حلب- غالية خوجة

تتدلّل الأزقة القديمة وأنت تعبرها إلى دار المطرانية في حي الجديدة إلى بوابة القصب، كما تتدلّل طفلة بين أمها وأبيها ولدت في الحرب، أو خرجت من بين أنقاض الزلزال، فترى الحجارة متعاشقة مع الأشعة والأشجار والناس تمارس حياتها اليومية بين ألم وأمل.

وهناك بين هذه الأزقة تطالعك دار المطرانية ببنائها العمراني الأثري ومدخلها وساحتها التي تتوسطها بركة ماء تغني بهدوء مع الأغصان على ألحان حلبية تراثية وعربية تنتشر من آلتي القانون والإيقاع بأحاسيس كلّ من الفنانين رافع العدل وأحمد فرزان، بينما تتوزّع أعمال المعرض الفني التراثي الممتد ليومين على غرف المطرانية الأرضية والعلوية والذي يقام للمرة الأولى بالتشاركية بين المطرانية وفرع حلب لاتحاد الفنانين التشكيليين ومديرية الثقافة.

تناغم واحد في الماضي والحاضر والمستقبل

وصرّح لـ”البعث” الأب جبرائيل عازار خوري كاتدرائية النبي إلياس للروم الأرثوذكس: هنا كانت مطرانية حلب القديمة، والمعرض يضمّ 30 فناناً من التشكيليين المخضرمين والفنانين الشباب، ويعكس التآخي المتناغم بين المكان والأعمال وتأريخ وتراث حلب وثقافتنا الواحدة المشتركة لبلد واحد نحافظ عليه ونربّي أجيالنا عليه لأنه رمز انطلاقنا للآخرين. وأضاف: ننطلق بما تميّزنا به من حضارة وثقافة وتراث وحالة من الديمومة المتواصلة من الذاكرة الفسيفسائية الواحدة التي جمعت أبناءنا في الماضي، وتجمعهم في الحاضر والمستقبل، لذلك من الممكن أن تكون هذه المبادرة سنوية تبعاً لهمّة الشباب.

الشباب مطر ينبت من جديد

وأخبرنا محمد نور العسلي، طالب علم نفس، بأن هذه الفكرة المبادرة أطلقت مع فريقه بيروا، مؤكداً أنه اسم تأريخي لحلب يسبق اسمها بيرويا، وتابع: نحن مجموعة من الشباب، حصلنا على دعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان، ومن مؤسسة سند للشباب التنموي، وأسسنا لهذه المبادرة بالتشاركية ولمدة يومين، وأحبّ أن أقول للشباب: كونوا فخورين بأنفسكم، نحن حبات المطر التي ستنبت منها سورية من جديد، فأنتم تعكسون حب الوطن وفصوله ومستقبله بوجودكم وفاعليتكم.

فعاليات في كل مبنى مرمّم

تتنوع الأعمال التشكيلية في غرفة الفن التشكيلي بين رومانسية وطبيعية وواقعية وتعبيرية ورمزية وتشكيلات حروفية وخطية، وتحكي عن المتغيّرات الإنسانية والمكانية والزمانية، وحركة التجدّد بعد الأزمات ضمن الإمكان المتاح، فيشعر المتلقي بأنه يتجول بين الأفكار والطرقات والمباني وأحوال الناس الظاهرة كشخصيات كانت هنا، وبين العناصر الطبيعية الأخرى من الكائنات الحيّة وإيقاعات الألوان العاكسة لمشاهد من التراث كرموز ومعالم وأزياء فلكلورية ومولوية وأعراس وآلات موسيقية، إضافة لمنحوتات للفنان عبد القادر منافيخي.

ومن المشاركين التشكيلي صلاح الخالدي، الذي عبّر عن هذه الفعالية بقوله: إنها مبادرة جيدة تعكس محبة الفنانين لمدينة حلب المحروسة، وتوجّت بمعرض فني ضمّ أغلب الفنانين ومحبي حلب وتراثها، والميزة الملفتة أننا نجد في كل بناء أعيد ترميمه فعالية ثقافية وفنية، وأشارك بلوحة عن الزلزال تسرد الكثير عن الأرض والأنقاض والناس والأمل المضيء.

تعبيرية رمزية

وعن مشاركتها، قالت التشكيلية علياء ريحاوي: مشاركتي في هذه المعرض عبارة عن لوحة إنسانية تعبيرية بتشكيلية رمزية، وهي مؤلفة من قسمين، الأول نصف وجه أنثوي بألوان غامقة، تبرز فيه رمزية العين والضوء والمحارة الأشبه بزهرة “اللوتس” بعيداً عن الضغط الحياتي، قريباً من قوة المتابعة والأمل، وهو ما يحكيه القسم الثاني من اللوحة المكمل للوجه الأنثوي كنصف ثانٍ، بألوان فاتحة تزهر الأمل.

مشاركة الفرحة

أيضاً كان التشكيلي أيمن الأفندي سعيداً بمشاركته مع الفنانين المخضرمين لفرحة الشباب في هذا المعرض الذي علّق فيه لوحتين.

ذكريات مدرسة

وأخبرتنا التشكيلية نجلاء دالاتي عن لوحتها “مدرسة سيف الدولة” الكائنة في حي الفرافرة العتيق: كانت مدمّرة بفعل الحرب، وأضفت لها من ذاكرتي صورتها القديمة، وتخيّلت أن سجادة ما ممدودة على الشرفة فوق الباب الرئيسي، بينما الشبابيك الخشبية القديمة فمنها المفتوح ومنها المغلق، لكنها ما زالت تحتفظ بذكريات أبناء حلب، ويتدلى منها ضوء يقبع داخل الفانوس مطلّ على حمامات السلام البيضاء في الساحة، وحوض الشجر، وأصيص الورد، والفتاتين الحلبيتين المطمئنتين مع الكائنات الأخرى ولون المباني والطقس ونون نوح.

أسماء الأحياء وفيلم وأحرف سريانية وعملة

قاعة أسماء أحياء حلب المكتوبة على أوراق ملصقة على الجدران ليتعرف الحضور على أحيائهم، لكن كان من الممكن أن نضيف لكل حيّ أهم معلم يتضمنه، ومن الممكن أن نرتب أسماء الأحياء تبعاً لخارطتها الواقعية المكانية وشوارعها بطريقة فنية أجمل، وتشتمل القاعة على أوراق كتبت عليها الأبجدية بالعربية والسريانية ليكتب الراغبون أسماءهم، إضافة إلى فيلم وثائقي بتقنية الشاشة التي تعرض على الجدار تطورات حلب المختلفة منذ عام 1920 كبداية للحداثة على مختلف الصعد الحياتية ومنها وسائل المواصلات، وكيف كانت الحياة في أغلب مناطق حلب، وكيف كانت الأزياء.

بينما في قاعة أخرى، أراد الشباب أن يكون تأريخ العملة السورية محوراً لصورهم الفوتوكوبية ورسوماتهم التي ترافقها حمامات السلام، واستجاب القائمون على هذه القاعة لملاحظتي بأنها رمز وطني، لذلك يجب ألا توجد على أرض القاعة مع رسومات حمامات السلام، وبالفعل، احتفظت الجدران بأعمالهم المعلقة لتحكي عن آلامها ومعاناتها من الحرب والزلزال والسلام.

مشاهد من خيال الظل

وعلى شاشة بيضاء في قاعة خيال الظل، تتحرك شخصيات يؤديها فنانون شباب أحبّوا هذا الفن التراثي الذي اعتبرته اليونسكو من التراث الإنساني العالمي، ومنهم ماجد العلي من فريق ظلال حلب، الأمانة السورية للتنمية، الذي أخبرنا عن شخصية قدري التي يؤديها قائلاً: هي شخصية ناقدة للواقع المعيشي بطريقة كوميدية، والعرض مؤلف من مشهدين، ويظهر أيضاً الحكواتي كشخصية تراثية.

بينما قالت دلاف القصاري: أدرس اقتصاد وممثلة في المسرح الجامعي، ومحافظتنا على خيال الظل كتراث شعبي محلي وعالمي ضرورة، ولربما، هو مناسب أكثر للأطفال واليافعين رغم الشبكة الإلكترونية، ومن الممكن أن يكون منصة تربوية تعليمية فنية مؤثرة.

ملامح روح حلب أزلية

وفي قاعة الصور الفوتوغرافية واللوحات الفنية لمعالم حلب وأبنيتها وبعض شخصياتها، نرى الصور تقبض على ملامح المدينة التي كانت قبل الحرب والزلزال، منها صور استخرجت من “النت”، ومنها صور ملتقطة حديثاً، لخمسة فنانين شباب مشاركين، كما أخبرتنا المتطوعة الشابة هديل أسعد.

وضمن هذه المجموعة نقضي وقتاً سياحياً ثقافياً داخلياً مع القلعة وساعة باب الفرج والجوامع والكنائس والأسواق والمدارس والبوابات والقناطر والبيوت العريقة والشوارع والأحياء والخانات بما كانت عليه، وبما آلت إليه، وبعد ترميم الكثير من المعالم، كما نلاحظ حضور شخصية تؤدي المولوية، وبورتريه لصباح فخري كذاكرة للموشحات والقدود الحلبية، إضافة إلى بعض العادات اليومية الحلبية، وثقافة الطعام مثل صورة لطبق “اللحم بالكرز”.

ومن الفنانين المشاركين الشابة رغد مشمشان التي فضّلت المشاركة باسكتشات فوتوغرافية استخدمت فيها الحبر لتبدو معتّقة بروح حلب، إضافة لمشاركتها بلوحتين للخط العربي في قاعة الأعمال الفنية معتمدة على تدرجات الألوان الترابية والسماوية الغامقة وتفاؤلها بالصبر في لوحة “واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا”، مع إضافتها للون الذهبي بطريقة أفقية ومتماوجة للدلالة على الأمل والتفاؤل والضياء والمستقبل.

أمّا الفنان الشاب محمد وسيم الكاتب، طالب هندسة حواسيب، فقال: أصوّر الأماكن القديمة التي انهدمت منذ 3 سنوات، بعد الحرب الظالمة وقبل الزلزال، في هذه الأماكن نشعر بروح حلب الأزلية التي لم تؤثر فيها الظلمات، بل تعلّمنا منها أن نكون أقوى من الحرب في الصمود وإعادة البناء، كما أننا -ورغم الكوارث- ازداد دافعنا الداخلي في الخروج من الموت إلى الحياة.