خطوة جادة وجديدة في ديناميكيات السياسة المتغيرة.. قراءة في العلاقات السورية – الصينية
ريا خوري
تشكل زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى جمهورية الصين الشعبية حالة جديدة من تطور العلاقات رفيعة المستوى بين البلدين، حيث تأتي الزيارة في مجرى التطور المتسارع للأحداث العالمية، ومن المتوقع أن تحمل نتائج تلك الزيارة قيام علاقات إستراتيجية أكثر قوةً ومتانةً، خاصة وأنّ سورية تشكل رقماً صعباً في المعادلة السياسية كونها تملك موقعاً جيواستراتيجياً هاماً في منطقة الشرق الأوسط، وتملك موقفاً جيوسياسياً قوياً في مجابهة المشاريع الغربية الأمريكية – الأوروبية، وكونها الدولة القوية التي تحارب الإرهاب والإرهابيين.
العلاقة السورية الصينية قوية منذ فجر التاريخ، فقد كانت وما تزال سورية تقع على طريق الحرير الدولي الذي يربط جنوب الكرة الأرضية بشمالها وشرقها. كما ترتبط سورية بالصين علاقات دبلوماسية، وحزبية تمتد إلى ما يزيد عن السبعين عاماً، فقد بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1956، وهي علاقة قوية بين الحكومتين نتيجة العلاقة القوية بين الحزبين الكبيرين في كل من الصين وسورية، فحزب البعث العربي الاشتراكي يسير على نهج الحزب الشيوعي الصيني، والذي يهدف الحزبان على دوام تطوير الاتصال مع الجماهير الشعبية، ورفع المستوى المعيشي لكلا البلدين، ورغبة البلدين العمل على المزيد من التطور في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية، وعلى المستويات المختلفة والمتنوعة، واستمرار عقد اللقاءات الهامة بين البلدين التي يمكن من خلالها أن تؤدي دوراً كبيراً في توسيع مساحة التفاهم، ودفع العلاقات بين الجانبين نحو مزيد من التطور.
وتأتي زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى الصين ضمن جدول أعمال تقوية بناء الجسور بين البلدين، والاستمرار في الوقوف في وجه القوى الأطلسية، غير متناسين الموقف الصيني الذي استخدم حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي دفاعاً عن سورية وحريتها وسيادتها واستقلالها كونها تتعرّض إلى أشرس هجمة إرهابية في عصرنا الحديث المدعومة والممولة من الغرب الأمريكي- الأوروبي .
لقد أدركت القيادة السوري في وقتٍ مبكر حجم وقوة الصين العالمي، ودورها الهام في تغيير النظام الدولي في العالم، فزيارة السيد الرئيس تشكل خطوة جادة وجديدة يمكنها التعامل بقوة مع الديناميكيات السياسية المتغيرة في السياسة والاقتصاد والتبادل التجاري، وهذا ما يبشّر ببدء مرحلة جديدة متجددة تتطلع سورية من خلالها إلى الصين في تطوير بنية الاقتصاد السوري، ومحاولة الخروج من المآزق الصعبة خاصة بعد العقوبات الأمريكية والغربية الأوروبية الجائرة على الشعب السوري، وإقامة شراكات، وتحالفات دولية لها خصوصيتها ومقدراتها في ظل تحويل منطقتنا العربية بشكلٍ خاص والشرق الأوسط بشكلٍ عام إلى منطقة مغلقة اقتصادياً.
في حقيقة الأمر ما زال العالم يشهد حالة متسارعة من التحولات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وما يزال الصراع المحتدم حول من سيقود النظام العالمي من خلال الضغوط الاقتصادية والسياسية والحروب المدمرة الدامية، وبروز قوى جديدة تتقدم بسرعة لأخذ موقعها الذي تستحق في هذا النظام العالمي، وتراجع قوى ودول أخرى، لا بد لنا نحن العرب بحكم موقعنا الجيو استراتيجي وما نملكه من ثروات هائلة وثقل اقتصادي وبشري أن يكون لنا دور فاعل وكبير يتحدَّد وفق مصالحنا ومصالح شعوبنا ودولنا ومستقبلنا انطلاقاً من وعينا بما يجري في العالم وما يشهده من متغيرات دولية وأهمية الاستجابة لها، وبناء قوة جديدة محملة بالإرادة والتصميم على بلوغ الأفضل وبناء توازنات جديدة في علاقاتنا الدولية، من دون العودة إلى ما يمكن أن نتعرض له من ضغوط دولية من جوانب متعدّدة، أو محاولة إبقائنا في الدائرة السابقة التي طبعت علاقاتنا الدولية مع الآخر.
وزيارة السيد الرئيس بشار الأسد اليوم تؤكد على أنّ مثل هذه العلاقات كانت قد قطعت أوجهاً مختلفة من التعاون على كافة الصعد، ومن المتوقع أن يثمر هذا اللقاء عن دفعة كبيرة، وحتى نوعية، لهذه العلاقات البينية، التي لا تريد لا جمهورية الصين الشعبية ولا دول المنطقة أن تقدّمها كبديل للعلاقات القائمة مع دول أخرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وإنما في إطار كونها تلبية للتحولات الدولية الكبيرة والمهمة الجارية في عالم اليوم، والتي تقتضي لا الانفتاح على القوى الدولية المختلفة والمتناقضة فيه، وإنما أيضاً إقامة أوجه تعاون اقتصادي وتجاري وعلمي معها، بما يعود بالنفع على كافة الشركاء المتعاقدين، ويتيح الاستفادة من الخبرات الهائلة والميزات التي يوفرها هذا التعاون متعدد الأوجه والأشكال.
في حقيقة الأمر إن زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى الصين ستثير حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية التي ترى فيها محاولة من الصين لبسط نفوذها وسيطرتها في أنحاء العالم، وفق جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي للبيت الأبيض، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ بلداننا العربية تدير ظهرها للولايات المتحدة الأمريكية التي ارتبطت فيها عقود طويلة، إنما تسعى لإقامة علاقات سياسية واقتصادية وتجارية متوازنة مع مختلف القوى العالمية بما يحقق مصالحها بالدرجة الأولى، والتكيف مع المتغيرات الدولية المتسارعة في أيامنا هذه.
من جهتها تبذل الصين أقصى قوتها لتحقيق طموحها في بسط مزيد من نفوذها في العالم، وتطمح لأن تتبوأ مكانتها التي تستحقها في العالم وفي قيادته جنباً إلى جنب مع قوى أخرى، فهي إذاً بحاجة إلى شراكة مع الدول العربية التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم، وتتحكم بأهم طرق وممرات التجارة البحرية، مثل مضيق جبل طارق وقناة سويس ومضيق باب المندب ومضيف هرمز، ووقوعها في قلب العالم القديم بين خمس قارات ، وتتشاطئ مع البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الأطلسي والمحيط الهندي، كما أن الدول العربية بحاجة إلى هذه الشراكة مع دولة تعتبر (مصنع العالم)، والثانية في الناتج القومي العالمي، وصاحبة أهم مبادرة إنمائية واستثمارية واقتصادية وتجارية عالمية في البنية التحتية متمثلة في “الحزام والطريق”، الذي تم إنشائه في عام 2013 بقصد تحسين الترابط والتعاون على نطاق واسع يمتد عبر القارات، و”بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية” الذي تأسس عام 2014 برأسمال خمسين مليار دولار أمريكي، ويضم أكثر من 35 دولة مساهمة ليس من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى قدراتها التكنولوجية التقنية المتطورة وإنتاجها للشرائح والرقائق الذكية .
من الواضح تماماً أنَّ المصالح العربية – الصينية متشابكة إلى حد التكامل في العديد من المجالات، فقد ارتفع التبادل التجاري بين الطرفين من 36.7 مليار دولار عام 2004، إلى 330 مليار دولار عام 2021، وفق الأرقام التي أصدرتها المنظمة العربية للثقافة والعلوم ومقرها تونس، كما أنَّ الاستثمارات المالية والتجارية الصينية في بلداننا العربية بلغت نحو 213.9 مليار دولار ما بين عام (2005 و 2021) ما يعطي لهذه الشراكة بعداً اقتصادياً وتجارياً ومالياً بالغ الأهمية.
في هذا السياق يمكننا الإشارة إلى التقرير الذي أصدرته وزارة الخارجية الصينية مؤخراً حول التعاون الصيني – العربي في عصر جديد، أكدَّت فيه أن الصين شريك استراتيجي وصديق مخلص، وسيلعب دوراً هاماً وبنّاء في الشرق الأوسط، ويتجنب القيام بأي عمل مها كان يمسّ بمصلحته الجيوسياسية. كما يمكننا القول أن الخطاب السياسي الصيني هو خطاب متوازن، وهذا يؤسس لتعاون مخلص تنشده دول منطقتنا العربية بعيداً عن أشكال ومظاهر الضغوط السياسية، وإملاء الإرادة على دول مستقلة ذات سيادة، لها رؤيتها الخاصة وتوجهها في العلاقات الدولية، منسجمة مع مصالحها وأمن شعبها وحكومته واستقرارها.