الروائي شكيب الجابري.. الذي سجن في المظاهرات أيام الاحتلال الفرنسي
البعث الأسبوعية- فيصل خرتش
تعرفت إليه عندما كنت في جامعة حلب، كلية الآداب – قسم اللغة العربية، فعندما كنا في السنة الرابعة، درَسنا للدكتور عمر الدقاق في كتاب ” فنون الأدب المعاصر” الروائي شكيب الجابري، ورواياته التي اعتبرها الدكتور الدقاق بأنها الأعمال الفنية الأولى للرائد الطليعي، ليس في مدينة حلب، ولكن في الإنتاج الروائي العربي، وتعرفت إليه مرَة ثانية عندما دعاه اتحاد الكتاب العرب إلى حلب ليتحدث عن تجربته الروائية، وحضرت يومذاك واكتشفت أنَ الجابري جريء في تحديث الشكل الفني للرواية، كما أنه صاحب تجربة نضالية فقد صحب الوفد السوري – الفلسطيني الدائم في جنيف، أثناء دراسته فيها 1930-1936 فقد كان رئيساً لجمعية الطلاب العرب ومؤتمر الطلاب العرب في باريس، وكافح مع إخوانه الصهيونية في عقر دارها.
لقد توظف في جمعية الأمم المتحدة بجنيف، وتعرَف على خبايا كثيرة من حياة الكواليس فيها، حيث لم يكن لدولة عربية أي تمثيل مباشر، وقد عاد إلى سورية لقضاء العطلة الصيفية، فوجد الانتداب قابع على صدرها، ويمارس غطرسته وشراسته، فكانت المظاهرات رداً على ذلك، فانضم إليها واصطدم معهم، وخرج من هذه المظاهرات بكسور في الجمجمة وجروح في الجسم كادت أن تودي به، وسجن، وقد وضع أولى روايته ” في أثر السراب” في السجن ولكنها لم تطبع.
ثم جاء العهد الوطني فانتخب الجابري مديراً للدعاية والأنباء ثمَ مراقباً عاماَ للشركات ذات الامتياز والمعادن وحملته الدوامة بعد سنين سفيراً في بلاد الأفغان، ثمَ عاد إلى بلاده ليدير معملاً للزجاج فارتفع بهذه الصناعة وأصبحت تصدر إلى الأمريكتين.
وسحر بالزعيم عبد الناصر، ثمَ لم يلبث أن روَعه التفتيت الذي حلَ بالخراب والدمار في الصناعة والاقتصاد، فهبَ يحاضر وينذر، فأطيح به وعزل من منصبه وجرد من الحقوق المدنية، فذهب إلى بيروت، وكتب كتابه السياسي ” يومان لا يتشابهان: 23 حزيران و23 أيلول ” وبعد ذلك سمح له بالعودة إلى بلاده، فعاد إليها ليقضي بقية حياته.
عام 1938 كتب عمله الأول رواية ” نهم ” فكان لصدورها صدى بعيد حملت لواءه صحيفة المقتطف والصحافة اللبنانية الأدبية، وفي هذا العمل نجده يتحدث عن رجل روسي التحق بالثوار الإسبان ضد الجنرال فرانكو، هو يحب النساء، ولم يتأخر عن إغراء الإسبانيات بحبه، وتتحدث الفكرة الأساسية للرواية عن ولع الذكورة بالأنوثة أو بالعكس الذي يبلغ حدَ النهم، وشكيب الجابري ككاتب يمثل الفكر الشرقي، وموقفه من بطل الرواية كان أقرب إلى الدهشة منه إلى الاستنكار.
إن مسألة صدام الشرق بالغرب سوف تشتدَ في رواية ” قدر يلهو ” التي صدرت بعد شهور، فالكاتب أراد أن يكمل نقص المدنية الشرقية بمزايا المدنية الأوروبية فأضاع المدنيتين، إنه كما يقول: “لقد أضعت نفسي إلا قليلاً”.
وفي ذات العام صدرت له رواية ” قوس قزح ” وتتحدث عن الطالب السوري ” علاء ” الذي يدرس في كلية الطب في ألمانيا ويتعرف على فتاة هناك ” إيلزا ” لقد آواها في بيته وأنقذها من التشرد ووجد لها عملاً، ثمَ انتهت دراسته وعاد إلى بلاده، وحين زار بيروت التقى بها في أحد الملاهي تعمل كراقصة، على أمل أن ترى الإنسان الذي انتشلها من التشرد في الشوارع، وأن يجمعها الحظ به وذلك بعد أن مات ابنها من علاء والذي أسمته محمد علي بالسل وعمره إحدى عشر سنة، ثمَ تموت هي الأخرى بالمرض ذاته ولكن على صدر الذي حاول أن ينقذها من المرض الذي فتك بها.
إن الطابع الرومانسي الطاغي على العلاقة العاطفية لم يمنع الكاتب من أن يدفعه باتجاه فكري عبر العزة القومية، ويبقى هذا العمل وطنياً وقومياً بامتياز.
في روايته الأخيرة ” وداعاً يا أفاميا ” تبدو مشكلة صدمة الحداثة بالغرب محلولة بالنسبة للشرق العربي، وذلك حين يعتدي المهندس الأجنبي الذي يعمل في بعثة التنقيب عن آثار أفاميا على نجود، الفتاة الريفية والتي ينتهي بها المطاف بعد هروبها الصعب عبر مستنقعات الغاب إلى كوخ التعدين الذي يربض فيه المهندس السوري، والذي اكتشف مواهبها واعتدادها بشرفها فحماها ورعاها وصقل مواهبها، إلى أن اقتنع بها فتزوَجها.
يعالج في هذه الرواية عقدة الشرق بالغرب، ولكنها تعالج أيضاً رفض مقولة الشرق شرق والغرب غرب، بمعنى استحالة اللقاء بينهما، وذلك حين تعبر إحدى أفراد البعثة وتتحدث عن خبرتها بالشرق، فتقول: ” إنَ روَاد الشانيزليزيه أو الداونغ ستريت ليسوا أفضل خلقاً وأفضل أخلاقاً من روَاد السهول والبوادي ومن أبناء الطوارق أو البدو الرحل” ويتمتم لاكوست وهو أحد أعضاء البعثة أيضاً ” ويل للمخلوق الغربي ما أشد غربته في الكون كلما ازداد اقتراباً منه بعلمه ازداد بعداً عنه بروحه وقلبه وإحساسه” وتختتم جوزيت هذا الحوار بقولها: ” ولعلَ الترف المفرط الذي ذهب بحضارة العرب بعد أن دوَخوا العالم بقوى بداوتهم البكر العجيبة سيهبط بالإنسان الحديث دركات في مدارج وجوده” وكأنها تؤكد المغزى للعمل، إنَ الإدانة تلحق الجميع شرقاً وغرباً”.
إنَ البطل الأصلي للروايات هو شكيب الجابري، فالسيرة الذاتية للكاتب تتقاطع مع الأحداث، أما على الصعيد الفني فنجده يجري في تحديث الشكل الفني، ففي رواية ” نهم ” عمد الكاتب فيها إلى أسلوب الرسائل والمذكرات والفصول السردية المعروضة بأسلوب الخطف خلفاً، وهذه الأساليب لم تكن متداولة في الإنتاج الروائي العربي، وفي الروايات الأخرى ينوع في السرد، ويمزج أسلوب المذكرات بأسلوب الرسائل، ويتدخل الكاتب في بعض الفصول، وهذا مما يزيد الرواية غرابة وجاذبية.
إنَ علاء بطل ” قدر يلهو ” كان يفكر باعتزال العالم في بيت له شيده فوق إحدى تلال جبل الزبداني، وهي إشارة تذكرنا بالتحفة المعمارية التي شيدها شكيب الجابري، وصارت معلماً عمرانياً مشهوراً هناك، فقد نحت في الصخر في الجبل الوعر على كتف الزبداني بين الأشجار التي تخترق الصخور.. نحت وبنى حتى صنع ملحمة من بيته المدهش والغريب، ولكن للأسف لم يمهله العمر لإكمالها، ربما كان أجمل ما فيها أنها لم تكتمل.
شكيب الجابري:
من مواليد 1912 حلب سورية.
درس في جنيف وبرلين، وحاز على دكتوراه في الكيمياء، عمل فترة في جمعية الأمم المتحدة، عاد إلى سورية وأصدر أربع روايات، كما نشر كتاباً بالفرنسية ” تأثير الأوزون في مشتقات البترول ” وكتاب آخر في ” مبادئ الجيولوجيا ” وفي السياسة له كتاب: يومان لا يتشابهان.
توفي عام 1996.