مجلة البعث الأسبوعية

“ناتو” يعيش هاجس التفكّك والانهيار.. هل تستطيع دول أوروبا الشرقية إنقاذه من هذا المصير

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي

يصرّ الغرب الجماعي على استعراض قوّته العسكرية على حدود روسيا كلما أتيح له ذلك وتحت عناوين متعدّدة، وذلك عبر أداته العسكرية حلف شمال الأطلسي “ناتو” التي يبدو أنها تحوّلت هي الأخرى إلى فزاعة للدول الغربية للتحذير من خطر محدق بأوروبا يحول الحلف دون وقوعه ما دام يمتلك تأييد الشعوب الغربية، وبالتالي كلما شعر الغرب بضعف التأييد للحلف داخل الدول الأوروبية عمد إلى صناعة مخاطر وهمية لإجبار الشعوب الأوروبية على تقبّله بوصفه الضامن لأمن هذه الدول، بينما هو مجرّد أداة للإدارات الأمريكية المتعاقبة للاستمرار في ابتزاز هذه الدول.

وربّما تكون الأزمة الأوكرانية في حدّ ذاتها هي وسيلة من وسائل الولايات المتحدة الخبيثة لصناعة عدوّ مفترض للدول الأوروبية في الشرق، وبالتالي إحداث أزمة ثقة في العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي وجارها الشرقي التقليدي روسيا، حيث تخشى واشنطن أن تتطوّر العلاقات بين دول الاتحاد وروسيا بشكل يؤثّر في حجم الاعتماد الأوروبي على حلف شمال الأطلسي الذي تتحكّم بقراراته، وبالتالي تتزايد الدعوات في الداخل الأوروبي للاستقلال عن الولايات المتحدة في القرار، وهذا طبعاً يفقد واشنطن سوقاً استهلاكية كبيرة تعتمد عليها بشكل هائل في تسويق منتجاتها، وخاصة الأسلحة، تحت عناوين أمنية ودفاعية.

ومن هنا يحاول الحلف في أدبيّاته التسويق لكونه حلفاً دفاعياً بالدرجة الأولى من خلال إطلاق تسميات على مناوراته ونشاطاته تحمل مسمّياتٍ موحية بهذا التوجّه، يتم التسويق لها عادة على أنها استعداد للدفاع المقدّس في مواجهة الدب الروسي الذي يسعى حسب الدعاية الأمريكية طبعاً لقضم أراضي أوروبا تدريجياً واحتلالها، ومن هنا قالت صحيفة “فايننشال تايمز” في وقت سابق من هذا الشهر: إن حلف الناتو سيجري في عام 2024 أكبر مناورات عسكرية له منذ أيام الحرب الباردة، وذلك تحت اسم “المدافع الصلب”.

وفي الوقت ذاته يعلن مشاركة ما لا يقل عن 41 ألف جندي وأكثر من 50 سفينة في هذه المناورات، وتخطّط قيادة الحلف، خلال هذه التدريبات، لاستخدام “بيانات جغرافية حقيقية لوضع سيناريوهات أكثر واقعية للقوات”، لإظهار أن الغاية من هذه المناورات تتلخّص في “العمل على محاولة صد العدوان الروسي الموجّه ضد إحدى الدول الأعضاء في الحلف”.

وبالنظر إلى أن هذه التدريبات ستجري في ألمانيا وبولندا ودول البلطيق في شباط وآذار 2024، بمشاركة السويد التي تنتظر موافقة تركيا والمجر على انضمامها، فإن الأمر يتعلّق بالدرجة الأولى بالتسويق إلى أن الحلف ما زال هو الضامن الوحيد للأمن الأوروبي وليس هناك أنموذج آخر لتحقيق الأمن لهذه الدول، كالجيش الأوروبي الموحّد الذي تمّ طرحه في الكثير من المناسبات على لسان فرنسا وألمانيا.

وفي السياق ذاته يندرج قول الأمين العام لحلف “الناتو” ينس ستولتنبرغ: إن أوكرانيا ستنضمّ إلى الحلف عاجلاً أم آجلاً، حيث قال في حديث لصحيفة مجموعة Funke: “لا شك في أن أوكرانيا ستصبح في نهاية المطاف عضواً في الناتو”، رغم أنه يدرك جيّداً أنه لا يستطيع أن يؤكّد أو ينفي بقاء أوكرانيا كدولة في نهاية الحرب، ولكنه يحاول تحفيز النظام الأوكراني على الاستمرار في الحلف خدمة للغرب الذي لا يستطيع حقيقة خوض معركة مباشرة مع روسيا ويكتفي فقط بتقديم الدعم لهذا النظام الذي ينبغي عليه أن يحارب روسيا حتى آخر مواطن أوكراني، محذّراً من أن إقدام أوكرانيا على وقف الحرب سيجعلها تختفي من الوجود، في الوقت الذي يُخفي فيه صراحة فكرة أن هزيمة أوكرانيا تعني هزيمة للحلف بأكمله الذي وقف خلف هذه الحرب، والذي استخدم كييف أداة في حرب بالوكالة على روسيا.

وبالطريقة ذاتها التي عمل بها الحلف على توريط أوكرانيا بصراع مباشر مع روسيا، يقوم بتحريض بولندا على عمل مماثل من خلال إعلان وزارة الدفاع البولندية عن إجراء مناورة “نار الخريف”، بالقرب من الحدود مع روسيا باستخدام معدات عسكرية اشترتها الجمهورية من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وعلى بعد 80 كيلومتراً من الحدود مع مقاطعة كالينينغراد الروسية، بشكل يوحي بأن هناك سيناريو معدّاً سلفاً لاقتطاع هذه المقاطعة البعيدة نوعاً ما عن الأراضي الروسية، والتي تطمع بولندا في السيطرة عليها بالإضافة إلى احتلال الغرب الأوكراني، وفي الوقت ذاته يتولّى الحلف عن طريق دول البلطيق مهاجمة الشمال والشمال الغربي الروسي، وخاصة أن نشاط الحلف تزايد في الآونة الأخيرة في منطقة القطب الشمالي، الأمر الذي دفع سفير المهام الخاصة في وزارة الخارجية الروسية نيقولاي كورشونوف إلى التصريح بأن روسيا ستردّ على تعزيز الناتو وجوده العسكري في القطب الشمالي بمجموعة من التدابير، حيث عزا ذلك إلى الخط غير البنّاء للولايات المتحدة وحلفائها، وخاصة على خلفية العملية الروسية في أوكرانيا.

وبالفعل سيؤدّي تعزيز الإمكانات العسكرية لحلف شمال الأطلسي في هذه المنطقة، وانضمام فنلندا إلى الحلف وإدراج السويد على قائمة الانضمام، إلى اتساع سيناريوهات القوة في الناتو في الخطوط الشمالية على حساب أمن الدول الأخرى، وهذا طبعاً سيضع الحلف وخاصة هذه الدول في مواجهة مباشرة مع روسيا، ما يضطرّ روسيا فعلياً إلى الردّ بما يتناسب مع ذلك.

وعلى العموم، واضح أن هناك دعماً أمريكياً قويّاً لبولندا لاستخدامها “حائط صدّ ثانياً” في مواجهة روسيا، وهذا ما يؤكّد فعلياً أن الحلف فقد الثقة نهائيّاً في إمكانية تحقيق أي خرق في صراعه بالوكالة مع روسيا عبر أوكرانيا، وبالتالي يخطط لاستخدام عناصر أخرى في هذا الصراع، والمفارقة أن هذه العناصر ابتداء من أوكرانيا وبولندا وليس انتهاء بدول البلطيق كلها تنتمي إلى أوروبا الشرقية، الأمر الذي يؤكّد أن مسألة ضمّ هذه الدول إلى الحلف أريد منها منذ البداية استخدامها أداة في مواجهة روسيا وليس حبّاً بهذه الدول، لأن الغرب لم ينظر في أيّ وقت من الأوقات إلى هذه الشعوب على أنها شعوب من الدرجة الأولى، وربّما يعدّ ذلك خير دليل على العنصرية التي يتبنّاها الحلف في أدبيّاته.

ولا تختلف الدعاية التي تطلقها أذرع الناتو الإعلامية بين الفينة والأخرى حول انضمام دول جديدة إلى الحلف، وخاصة الدول التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفييتي السابق، ومنها أرمينيا، في التسويق لفكرة استعداد الحلف لمزيد من التوسّع تأكيداً لقوّته، وفي حقيقة الأمر هو يستخدم هذه الدول حاجز صدّ أمام روسيا التي سيؤدّي اتساع نفوذها في المنطقة حتى على المستوى السياسي إلى اقتراب ساعة انهيار الحلف وتفكّكه.

وبالمحصّلة، جميع محاولات حلف شمال الأطلسي “ناتو” إظهار أنه لا يزال يمتلك القوة التي تؤهّله للبقاء كقوة سياسية وعسكرية على الأرض ستبوء بالفشل بالنظر إلى أن الحلف عجز حتى الآن عن حسم الصراع الدائر بينه وبين روسيا في أوكرانيا، وبالتالي لا نستطيع النظر إلى مناورات الناتو في البلطيق وبولندا وغيرها على أنها مؤشر قوة، بل ربّما تؤكد فرضية أنه بات في طور التفكّك والانهيار، وهذا ما أعلن عنه ضابط المخابرات الأمريكي المتقاعد، سكوت ريتر، حيث أشار إلى أن الولايات المتحدة وكندا لا تهتمان كثيراً برفاهية أعضاء “الناتو” الأوروبيين، لأن “الناتو” اليوم ليس سوى أداة لنشر القوات الأمريكية، بما في ذلك في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ولا علاقة لذلك بأمن القارة الأوروبية، مؤكّداً أن الناتو ليس موحّداً، وبالتالي فإنه في الطريق إلى التفكك.