ثقافةصحيفة البعث

دور الفاتيكان والأوبرا في الجزء الثالث من “العرّاب”

ملده شويكاني

“تبرعك بهذا المبلغ سيمسح تاريخ عائلتك السيئ”، هذا ما قاله القسّ بالفاتيكان لمايكل كوريوليوني في فيلم “العرّاب” الجزء الثالث والأخير، والذي أنتج عام 1990 وعُرض في جلسة النادي السينمائي في سينما الكندي بالتعاون بين مؤسسة أحفاد عشتار برئاسة د. أيسر ميداني، والمؤسسة العامة للسينما بإشراف الكاتب والمخرج وليم عبد الله.

وفي هذا الجزء تُسدل الستارة على نهاية رجل المافيا مايكل، الذي نجا من كل محاولات الاغتيال ليموت بهدوء وحيداً في منزله الكبير في مسقط رأسه صقيلية بالمشهد الأخير بفنية خاصة توحي بلوحة تشكيلية، بخلفية تظهر الألوان الترابية الباهتة في الحديقة، وبحركة بطيئة لمايكل الجالس على الكرسي يضع النظارة ويسقط على الأرض أمام كلبه، في هذه اللقطة يتعمّد المخرج الانسحاب بحركة بطيئة كأنها إحدى حركات السمفونية.

مقرّ الفاتيكان

ويتابع المخرج فرانسيس فورد كوبولا مساره في “العرّاب” بتنفيذ الجرائم، إلا أنه يدخل بجرأة إلى مقر الفاتيكان مع حضور البابا، ويأخذ القسّ جيلداي دوراً رئيسياً بتصاعد الأحداث، فيظهر المخرج السلبيات بإخفاء حقيقة المبلغ الضائع من خزينة الفاتيكان، وفي الوقت ذاته يوحي بالدور الديني باعترافات مايكل لقسّ آخر بارتكابه الكثير من الذنوب والجرائم، ولاسيما قتل أخيه فريدو، والذي لم يشك بقتله أحد، ويتضح هذا في مشهد يجمع بين مايكل وشقيقته كوني: “لا تحمّل نفسك ذنب غرق فريدو”.

الغناء الأوبرالي

كما يدخل عوالم الأوبرا من خلال ابن مايكل أنطوني الذي يواجه والده ويعلمه بقراره بترك دراسة القانون، وتوجهه نحو الغناء الأوبرالي: “تترك هذه العظمة، وتكمل حياتك مغنياً”. ولم يقتصر دور الأوبرا على تغيير مصير شخصية أنطوني فقط، إذ كانت شريكاً بالنهاية المأساوية. كما التزم المخرج أيضاً بمسار الزمن الفعلي الواحد للفيلم باستثناء المقطع الذي تكرّر بقتل فريدو في البحيرة التي يطل عليها منزل العائلة.

استحضار رومانسيات قديمة

ويستحضر مشاهد رومانسية للحظات جميلة أمضاها مايكل مع حبيبته الأولى التي تزوجها في صقيلية، وقتلها أعداؤه بتفجير سيارته، بتوظيف المشهد بمشهد إقناع ابنته ماري بالتخلي عن حبها لـ فينست ابن عمها سوني الذي قُتل بالجزء الأول، ليأخذ دور الشخصية الجديدة المساندة لـ مايكل والذي يتولى فيما بعد قيادة عائلة كورليون.

ولا يخلو الفيلم من مسحات رومانسية، ولاسيما في علاقة ماري مع ابن عمها فينست، واللقاءات التي جمعت بين كيه زوجة مايكل وأم ولديه بعد انفصاله عنها سنوات، واعترافهما باستمرار حبهما رغم الانفصال.

تغيّر الأمكنة والشخصيات الجديدة التي دخلت الجزء الثالث ساعد في التأثير على المشاهد بمرور الزمن وتشعب الأحداث تمهيداً لنهاية رواية العرّاب التي اقتبس عنها الفيلم. والملفت أيضاً جمالية الإضاءة الأقرب إلى الخافتة في مواضع كما في الجزأين السابقين، مع قوة تأثير الموسيقا.

في الكنيسة

يبدأ الفيلم عام 1979 برسالة يكتبها مايكل (آل باتشينو) لأولاده لحضور تكريمه بالكنيسة عن مجمل أعماله الخيرية وتبرعاته، لتظهر ابنته ماري (صوفيا كوبولا) التي تدير مؤسسة خيرية في إمبراطورية والدها وتتبرع بمبلغ كبير، يخفي مايكل وراءه عقد صفقة مع القسّ جيلداي لدخوله بالشركة العقارية التابعة للفاتيكان “إيمو بيلياري”.

وفي الكنيسة تلتقي ماري بابن عمها فينست (أندي جارسيا) وتغرم به، وتتصاعد الأحداث بالصراع بين مايكل وأعدائه وتصرف فينست المتهور ما يغضب مايكل، الذي يفكر بخطة للقضاء على أعدائه بعد اجتماعات وتنقلات بالطائرة ومطاردات.

أشكال أخرى للجريمة

يتخلّل الأحداث مرض مايكل ودخوله المشفى ووقوف زوجته إلى جانبه، فتتكرر أغلب الأحداث بأوضاع مختلفة وصولاً إلى المشاهد الأخيرة التي ينفذ فيها مايكل جرائمه المتتالية، لكن في هذا الجزء ينفذ الجرائم مايكل وعدوه موسكا، وتنتقل الكاميرا من مشهد إلى آخر كما تنفذ بعض الجرائم بالسم، مثل كوني شقيقة مايكل التي تقدّم الحلوى المسمومة لـ توني، وبمشهد قتل من حلّ بعد موت البابا بسبب ارتشافه القهوة كي لا يفضح عمليات الفساد.

رصاصة خاطئة

وصولاً إلى النهاية المأساوية بالمشهد الحزين على درج الأوبرا بعد انتهاء المسرحية الأوبرالية التي يشارك بها أنتوني، حينما يطلق الرصاص على مايكل لكن الرصاصة تخترق صدر ماري وتسقط صريعة على مرأى من أفراد عائلتها وهي تردّد “بابا” فيصرخ مايكل صرخات تصل إلى السماء وتتابع الكاميرا لحظة احتضان كيه ابنتها ماري وهي منهارة، لينتهي الفيلم بعد سنوات بموت مايكل وحيداً.

الثالوث المعتمد

وفي حديث الكاتب والمخرج وليم عبد الله المشرف على النادي لـ”البعث” بعد عرض سلسلة العرّاب بأجزائه الثلاثة، أوضح أن المخرج لم يغيّر من الرتم الذي التزم به في الجزأين السابقين، من حيث امتزاج الحياة والجريمة والدين، الثالوث المعتمد بسلسلة العرّاب. لكن الآلية التي اشتغل بها في الجزء الثالث ملفته منذ البداية بالكنيسة والاحتفال بالتكريم وصفقة المال بتتالي المشاهد، هي العناصر ذاتها الموجودة بالسلسلة، وعقّب على القاسم المشترك بين الأجزاء الثلاثة بتقديس العائلة، رغم إجرامهم وهذا التضاد الملفت.

دعم الحركات الفنية

والأمر المهمّ أن الفيلم صنع ليوجه رسالة بأنه يمثل عائلات المافيا الحاكمة بالعالم، إن كان روتشيلد أو روكفيلر، ليكون بمثابة ترويج للسيطرة على الاقتصاد والفاتيكان، بدلالة ذكر اسم روكفيلر بالفيلم حينما قيل لمايكل: “أنت روكفيلر الجديد”، وفي الوقت ذاته يؤكدون على دعم الحركات الفنية والأدبية لتبييض حضورهم ومدّ يدهم لكل المجالات، فتكررت عبارة: “سندعم الفنانين” من خلال دور المؤسسة التي تديرها ماري.

التخلي عن الحب

إضافة إلى ذلك لا وجود للمشاعر الإنسانية والوجدانية بالفيلم، رغم أنه يحكي عن الحياة والعائلة والفرح، بدا ذلك بقتل مايكل فريدو، وكذلك الحب حينما طلب مايكل من فينست التخلي عن ماري رضخ له مباشرة من أجل عمله بالمافيا. كما نوّه إلى المشهد الأخير بموت مايكل بمشهد عبثي وهو وحيد مع الكلب.