التاريخ سيسجل “طوفان الأقصى” .. أكبر عملية فلسطينية ألحقت هزيمة إستراتيجية بالكيان المحتل على مدى عقود
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
لقد رسخت عملية “طوفان الأقصى” حقيقة تاريخية: يجب مهاجمة “إسرائيل”، عندما يستريح جنود الاحتلال، وهذا ما فعله الجيشان المصري والسوري في 6 تشرين الأول 1973، بعبور قناة السويس والدخول إلى هضبة الجولان المحتلة في عام 1973. وقد استغرق الأمر أسبوعاً حتى يستيقظ الصهاينة، مذهولين من الهجوم المفاجئ، ويشرعون في الهجوم المضاد. وهذا أيضاً ما حدث اليوم عندما باغتت المقاومة الفلسطينية، التي توحدت ضد العدو الإسرائيلي، سلطات الاحتلال وشنت هجومها الواسع والبطولي على المستوطنات المحيطة بقطاع غزة من البر والبحر والجو، ما أصاب سلطات الكيان بالصدمة التي لم تصحو منها إلا بعد ساعات، لترد بإطلاق ما أسمته عملية ” السيوف الحديدية” متوعدة المقاومة الفلسطينية بأنها “ستدفع الثمن”.
لقد سطرت تلك المشاهد البطولية التي صاحبها اعتقال عشرات المستوطنين والجنود لمرحلة جديدة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الصراع لا حجماً ولا استعراضاً، لما فيها من إذلال لاحتلال يتباهى دوماً بامتلاكه أعتى منظومة عسكرية وأمنية، لكن ما جرى على الهواء مباشرة أمام مرأى العالم دحض كل رواياته المزيفة، وأثبتت المقاومة في غزة أنها هي التي تمتلك زمام الأمور وعنصر المفاجأة.
لحظات النصر
وعادت الأرض المحتلة لساعات، ذاق فيها الفلسطينيون لحظات النصر والتحرير بعدما ظنوا أنها بعيدة، فتلك اللحظات أثبتت أنه لا يوجد محال طالما المقاومة تمتلك أدوات تمكنها من مواجهة المحتل، لكن كل ذلك يحتاج إلى مواجهة شديدة قد تجر المقاومة إلى مواجهة برية مع العدو.
ويبدو أن الاحتلال الإسرائيلي لم يقرأ الواقع الذي حاول فرضه في الضفة المحتلة والقدس جيداً، لذا أساء تقدير الموقف ولم يضع في حساباته رد المقاومة على اقتحاماته للمسجد الأقصى ومحاولة فرض سيطرته عليه، عدا عن اعتداءاته المستمرة على أهالي الضفة وسرقة أراضيهم وهدم بيوتهم، فأثبت هشاشة منظومته الأمنية التي فشلت في توقع ما ستؤول إليه الأحداث.
وكعادة المقاومة في غزة، رسمت المشهد الذي أعدته رداً على تلك الاعتداءات، وفي ذات الوقت لم يتوقع أحد السيناريو الجديد الذي فرضته على أرض الواقع، لتكشف ضعف المنظومة العسكرية للاحتلال، فالرد الذي كان عبر اقتحام مستوطنات غلاف غزة وأسر العشرات من الجنود والمستوطنين يدفع للتساؤل: هل ستقود معركة طوفان الأقصى إلى مواجهة عسكرية برية بين الاحتلال ومقاومة غزة؟
للإجابة على هذا التساؤل، يوضح المراقبون أن”إسرائيل” في الوقت الراهن تريد استعادة السيطرة على الأرض التي فقدتها في اجتياح عناصر المقاومة البري لمستوطنات غلاف غزة، وإعادة ترتيب وضعها في هذه الأماكن خشية العمليات الهجومية للمقاومة مرة أخرى. و أن فكرة إعادة التموضع والهجوم البري على قطاع غزة من الاحتلال لن تحدث، لا سيما أن “إسرائيل” تجري اتصالات دولية للاطمئنان على المفقودين من المستوطنين والجنود الذين سحبتهم عناصر المقاومة إلى قطاع غزة. ويوضحون أيضاً أن الاحتلال يخشى إذا تصاعد عدوانه على قطاع غزة أن تجري عمليات تصفية لمن سقط في قبضة المقاومة، خاصةً في ظل ضغط الأهالي والعائلات الكبير على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
هزةً كبيرةً في المنظومة العسكرية الإسرائيلية
ويؤكدون أن هناك هزةً كبيرةً في المنظومة العسكرية الإسرائيلية، فالحدث مفاجئ وبالتالي “إسرائيل” التي كانت تعاني لاسترداد ستة أسرى كانوا في قبضة المقاومة منذ عدوان 2014 اليوم أزمتها كبيرة في ظل وجود عشرات المحتجزين، لذا لا يمكنها ردع المقاومة وشن هجوم بري.
ورغم تباين الآراء بين المراقبين للمشهد العسكري الذي فرضته مقاومة غزة، لا يمكن استبعاد أن يصل الانتقام الإسرائيلي من هذه العملية الكبيرة بمحاولة احتلال قطاع غزة من جديد والدخول في مرحلة سياسة وعسكرية جديدة وخطيرة.
ولكن يرى المراقبون أن هناك عدة كوابح تمنع الاجتياح البري لقطاع غزة أولها العدد الكبير للأسرى للإسرائيليين الذين وقعوا في قبضة المقاومة، بالإضافة إلى أن المواجهة العسكرية البرية صعبة خاصة أن “إسرائيل” تلقت الضربة الأولى بداية معركة “طوفان الأقصى” وتحاول التعافي منها.
وبالتالي، فإن “إسرائيل” غير مستعدة للدخول في مواجهة برية، فهي تحاول إنهاء المواجهة بصورة انتصار عبر الهجمات الجوية وليس البرية التي تدرك أنها ستخسرها بفعل ما أظهرته مقاومة غزة من استبسال ومهارات عالية.
وترجع بداية معركة “طوفان الأقصى” أنها جاءت بسبب حالة الاستعلاء والغطرسة التي تعيشها “إسرائيل” واتكاءها على نظام فلسطيني رسمي مختل لا جديد لديه فيما يخص إدارته للشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى اتكاءها على أنظمة عربية مطبعة، ما جعلها تقع في مربع الاطمئنان.
الاحتلال لم يقرأ المشهد
وأوضح المراقبون أن دولة الاحتلال لم تقرأ المشهد جيداً التي كانت نتائجه سلبية، حيث حالة الاحتقان في الساحة الفلسطينية بسبب موجة اقتحامات المسجد الأقصى وسرقة أراضي الضفة وتشديد الحصار على قطاع غزة ومحاولة تنفيسه بالقليل من أموال الممولين دون أن تكترث لجملة انتهاكاتها التي كسرت عبرها كل الخطوط الحمراء مع المقاومة وعمليات التطبيع.
ويضيفون أنه في يوم 7 تشرين الأول 2023 انهارت كل خطوط الدفاع العسكرية الأولى للاحتلال مع قطاع غزة، خاصة بعدما أثبت أن المنظومة الأمنية لم تمتلك أي خيط معلوماتي عما سيفعله المقاوم الفلسطيني كردة فعل على غطرسة الاحتلال.
وعليه، فهم يرون أن الوضع الأمني معقد في “إسرائيل” كونها فقدت عنصر المفاجأة وانجرت إلى مواجهة هي فيها الطرف الخاسر والمهزوم إعلامياً، فالاجتياح البري قد يكون أحد السيناريوهات الواردة لديها، لكن الأمر معقد وخيارات نتنياهو صعبة، فهو يحاول الآن استعادة صورة جيشه، خاصة وأن بعض الأحزاب الإسرائيلية حمّلت سياسة الاحتلال الإجرامية التي تنتهجها حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة المسؤولية عما يحدث، مسلطةً الضوء على المخاطر الجسيمة التي تشكلها على السلام في المنطقة. ومؤكدةً أن نتنياهو هو الذي أصبح الرائد بعد بيغن، وهو الشخص الذي جلب الكراهية باعتبارها الهوية اليهودية الوحيدة إلى النار، وكان يحظى بدعم واسع النطاق من الإدارة الأمريكية، حيث قدم نفسه على أنه المدافع الوحيد عن اليهود.
ومثل هذا السيناريو الذي يتكرر في كل مكان، ليس فقط في أميركا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا، والشرق الأوسط، بل بالأمس في القوقاز مع أرمينيا البائسة، وبالطبع مع أوكرانيا . أولئك الذين شجعوا هذا الجحيم في كل مكان هم الولايات المتحدة وحلفاؤها، وجعلوا من “إسرائيل” دولة للإمبريالية الأمريكية، وهي الآن لا تتماسك إلا بإرادة الولايات المتحدة، وبينما تواجه المقاومة الفلسطينية هذه الحكومة اليمينية المتطرفة الإجرامية، فمن الضروري أن يتحدث الأمميون في جميع أنحاء العالم علناً، وأن يحشدوا ويتخذوا الإجراءات اللازمة لإدانة الولايات المتحدة، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي، وجميع القوى المتواطئة فيما حدث. لقد حدث ذلك منذ سنوات عديدة، وهو ما جعل اليمين المتطرف في “إسرائيل” يعتقد أنه يتمتع بحماية متزايدة، ويتلقى مساعدات عسكرية أمريكية بقيمة 3.8 مليار دولار كل عام، بالإضافة إلى الدعاية الإمبريالية التي تتدفق يوماً بعد يوم إلى الصحافة الغربية والتي تخلق الظروف الملائمة للظلم، وتذهب إلى حد دعم الأنظمة النازية، كما هو الحال في أوكرانيا.
أزمة عميقة
وفي المواجهة الجيوسياسية بين الإمبريالية الأمريكية التي تعيش أزمة عميقة وعالم متعدد الأقطاب، تم القيام بكل شيء لعرقلة التحالف بين الصين وروسيا، بحيث اصطفت “إسرائيل” ويهود العالم في معسكر الموت والحرب، في حين وجدت شعوب أخرى نفسها عالقة اليوم في هذه المواجهة التي تقود العالم إلى حرب عالمية وإبادة جماعية.
وتعد غزة واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية على هذا الكوكب، حيث يعيش مليوني شخص في مساحة 140 ميلاً مربعاً. وتفرض “إسرائيل” قيوداً صارمة على كمية الغذاء والوقود والمياه التي يستطيع سكان غزة الوصول إليها. ولكن الظلم اليوم يحقق ما اعتقدت الإمبريالية وأتباعها أنه مستحيل، وهو توحيد شعب بلغة أخرى، والذي سمعته في الأمم المتحدة، أوقفوا نفاقكم ومتطلباتكم الهندسية المتغيرة: هذا ما عبرت عنه الفصائل الفلسطينية التي توحدت في هذه العملية، في البيان الذي أصدرته عقب انطلاق العملية، أكدت فيه أن جميع الأسرى لدى فصائل المقاومة سيبقون بين أيديهم حتى إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
علاوة على ذلك، فإن نطاق العمل، وإطلاق آلاف الصواريخ، واستخدام المظليين والسفن، والطريقة التي استولت بها الغارة على قرى بأكملها، واحتجاز رهائن عسكريين ومدنيين، تشير إلى أنها بالفعل حرب وأنها تحدث في محيط البيئة الإقليمية مثل لبنان وسورية وإيران. لقد استخدمت المقاومة المظلات للطيران فوق الحدود ودمرت أجزاء من السياج الإسرائيلي للخروج من غزة. وبالإضافة إلى العمليات البرية، أطلقت المقاومة الفلسطينية آلاف الصواريخ على القرى الفلسطينية المحتلة وعلى المستوطنات، حيث وبحسب بعض التقارير، أطلقت ما بين 2000 إلى 5000 طلقة ذخيرة.
ووفقاً لبعض التقارير، فقد تمكن المقاومون من الدخول إلى ما بين 13 و21 قرية محتلة، وقتلوا عدداً كبيراً من جنود الاحتلال، وأسروا أعداداً كبيرة منهم. وعليه، فإن هذه الحرب التي أعلنها نتنياهو، كما أرادها، هي حرب إبادة مخطط لها ضد الفلسطينيين، وهو السيناريو الذي يطبق في كل مكان، بما في ذلك دونباس، والذي يحدث مرة أخرى اليوم، في كل مكان بما في ذلك في أوروبا.
ما الذي حققته عملية طوفان الأقصى؟
قد يواصل الكيان حربه على الشعب الفلسطيني في غزة للتعتيم على هزيمته الكارثية، لكن عملية “طوفان الأقصى” سيسجلها التاريخ كأكبر عملية فلسطينية ألحقت هزيمة إستراتيجية بالكيان على مدى عقود، لجهة أن هذه العملية الفلسطينية المباغتة فاقت في خطورتها حرب تشرين عام 1973، وهي أول عملية اكتساح بري فلسطينيين لأراض يحتلها الكيان منذ عام 1967، وأول هجوم فلسطيني باستخدام ما يسمى “أشباح السماء” أو طائرات الباراغلايدر.
كما أنها أول عملية هجومية فلسطينية تستخدم ضفادع بشرية في هجمات من البحر على مواقع بالكيان. والحديث عن خسائر الكيان مفصل تماماً باعتراف القيادة العسكرية الصهيونية والأوساط الصحفية.
إن ما حققته عملية “طوفان الأقصى” أنها قلبت معادلات وموازنات القوى لصالح المقاومة، وفرضت معادلة ردع هجومية تجعل فلسطين المحتلة ساحة حرب. والذي حققته “طوفان الأقصى”، حطمت الغرور والكبرياء الصهيوني الفارغ بقوته العسكرية وبمخابراته وأجهزته التجسسية، وحملت رسالة للمطبعين والذين يفكرون بالتطبيع بأن الكيان عاجز حتى عن حماية نفسه.
بكل الأحوال، فإن الأمر المؤكد هو أن مقاتلي غزة سيتفاوضون غالياً على ثمن إطلاق سراح أسراهم، مع وصول عدد السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية إلى 4900 سجين. وهكذا، فلا “السيوف الحديدية” ولا “الجدران الحديدية” ولا “القباب الحديدية” يمكنها أن توقف رياح الأعاصير عندما تهب.