نيران المقاومة تغير قواعد اللعبة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
رسمت عملية “طوفان الأقصى” فصلاً جديداً من فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولكن الجديد هو أن فصائل المقاومة هي التي اتخذت قرار شن الهجوم، وهذه نتيجة منطقية لخمسين عاماً من السياسات العسكرية الفاشلة، حيث قامت فصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من شهر تشرين الأول الحالي بشن هجوم منسق على المدن الإسرائيلية القريبة والمعابر الحدودية في غزة والمنشآت العسكرية المجاورة والمستوطنات المدنية لتكون بذلك أول صراع مباشر كبير داخل أراضي الكيان “الإسرائيلي”، والذي يعتبر تغيير في قواعد اللعبة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
قنبلة الـ 50 عاماً الموقوتة
في الساعات الأولى من الهجوم، قال المتحدث باسم حماس، خالد قدومي، إن العملية العسكرية التي تقوم بها الفصائل جاءت رداً على جميع الفظائع التي واجهها الفلسطينيون على مدار العقود، ورداً على تدنيس المسجد الأقصى الأخير من قبل اليمين الإسرائيلي المتطرف. وقع الهجوم خلال العطلة اليهودية وبعد يوم من الذكرى الخمسين لحرب تشرين التحريرية وما تلاها من أحداث عندما تم إنشاء أول المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة. قبل نصف عقد من الزمن، نشر موقع” كونسورتيوم نيوز” للتحقيقات الاستقصائية، والذي أطلقه روبرت باري تعليقاً بعنوان “قنبلة إسرائيل الموقوتة لمدة 50 عاماً”، والذي يقول بأن الوضع الراهن لا يمكن الدفاع عنه وأن حرباً أخرى هي مسألة وقت فقط. وفي ذلك الوقت، حذر صندوق النقد الدولي من أن الخلافات العميقة بين أصحاب المصلحة الرئيسيين وتصاعد العنف في غزة يزيد من تعريض فرص السلام للخطر.
وبينما دفعت “مبادرات السلام” التي أطلقها ترامب المنطقة أقرب إلى الهاوية، إلا أن كثيرون حذروا من أن الوضع سيزداد سوءاً. وفي عهد نتنياهو، كانت “إسرائيل” تتحول إلى دولة فصل عنصري، وكان لدى السود في جنوب أفريقيا، الذين عاشوا في ظل الفصل العنصري، ما يأملون فيه أكثر من الفلسطينيين، ولا ينبغي أن يشكل ذلك مفاجأة بعد الآن.
في العام الماضي، قال المدعي العام الإسرائيلي السابق، مايكل بن يائير: “لقد غرقت بلادي إلى أعماق سياسية وأخلاقية حتى أنها أصبحت الآن نظام فصل عنصري”، ومؤخراً، كان الرئيس السابق للبرلمان الإسرائيلي، أفراهام بورغ، والمؤرخ الإسرائيلي، بيني موريس، من بين أكثر من 2000 شخصية عامة إسرائيلية وأمريكية وقعت على بيان عام أعلن أن “الفلسطينيين يعيشون في ظل نظام الفصل العنصري. “ومؤخراً، صرح تامير باردو، رئيس الموساد السابق (2011-2016)، أن آليات “إسرائيل” للسيطرة على الفلسطينيين، بدءاً من القيود المفروضة على الحركة إلى إخضاعهم للقانون العسكري بينما يخضع المستوطنون اليهود في الأراضي المحتلة لمحاكم مدنية، مطابقة لجنوب أفريقيا القديمة. وأضاف تامير بالقول: “هنا دولة فصل عنصري، ففي منطقة يتم فيها محاكمة شخصين بموجب نظامين قانونيين، فهذه هي دولة الفصل العنصري”.
ومع ذلك، واصلت إدارة بايدن الديمقراطية سياسات ترامب في الشرق الأوسط، والتي تتجاهل فعلياً الكابوس الفلسطيني، إذ أن توافق الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن مدفوع بأولويات البنتاغون ووزارة الدفاع الكبرى. وفي السنوات الخمس الماضية، دفع ذلك الكيان الإسرائيلي إلى حافة الاستبداد مما أدى إلى تعزيز دولة الفصل العنصري.
إعادة ة النظر في الاستقطاب الخطير
في عام 1994، وفي خضم محادثات السلام في أوسلو، كان نصيب الفرد في الدخل الفلسطيني، بعد تعديله وفقاً لتعادل القوة الشرائية، لا يتجاوز 15% مقارنة بالمستوى الإسرائيلي. وكان الأمل في ذلك الوقت هو أن السلام سيجلب الاستقرار، الأمر الذي من شأنه أن يرفع مستويات المعيشة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن الآمال تلاشت باغتيال اليمين المتطرف اليهودي لرئيس الوزراء إسحاق رابين، الأمر الذي أطلق شرارة دورة جديدة من الدمار.
وفي عام 2017، ارتفع دخل الفرد الفلسطيني ببطء إلى 16.2% مقارنة بالمستوى الإسرائيلي، وبعد أكثر من عقدين من الزمن، بالكاد بلغ نقطة مئوية واحدة، لكن ماذا عن التقدم في السنوات الخمس الماضية؟!
على الرغم من كل الضجيج الذي أطلقته إدارتا ترامب وبايدن بأن الشرق الأوسط أصبح على “أعتاب السلام والازدهار”، فإن دخل الفرد الفلسطيني قد انخفض بالفعل. وهو الآن 12.9% مقارنة بالمستوى الإسرائيلي، وهذا أقل بما يزيد عن نقطتين مئويتين مقارنة بما كان عليه قبل أكثر من عقدين من الزمن، بحيث لم تتحسن الأمور في فلسطين بل أصبح أكثر سوءاً.
دعم هذا الاستنتاج تقرير صندوق النقد الدولي الجديد الذي يحذر من أنه “وسط تدهور الوضع الأمني والسياسي والاجتماعي، من المتوقع أن ينخفض دخل الفرد الفلسطيني على المدى المتوسط”. إذن، كيف يمكن مقارنة الركود الفلسطيني بالركود الذي يعيشه السود في جنوب أفريقيا في أيام العنصرية المؤسسية؟.
خلال فترة الفصل العنصري (1948-1994)، ارتفع نصيب الفرد في الدخل بين السود في جنوب أفريقيا مقارنة بالبيض من 8.6% إلى 13.5% . ومقارنة بالسود في جنوب أفريقيا، كانت نقطة انطلاق الفلسطينيين أعلى بمرتين تقريباً من الناحية النسبية، ولكنها الآن أقل من تلك التي كانت عند السود في جنوب أفريقيا في نهاية نظام الفصل العنصري، وقد حدث هذا الانعكاس خلال إدارتي ترامب وبايدن. وبالأرقام المطلقة، أصبح نصيب الفرد من الدخل في “إسرائيل” اليوم على قدم المساواة مع المملكة المتحدة وأعلى منه في إيطاليا . وفي المقابل، يقدر دخل الفرد الفلسطيني بنحو 5700 دولار، وهو أقل من نظيره في نيجيريا وكمبوديا، بالكاد تتقدم على ميانمار، والأسوأ يلوح في الأفق.
انجراف “إسرائيل” نحو الاستبداد
الإصلاح القضائي “الإسرائيلي” هو عبارة عن سلسلة من التغييرات في النظام القضائي وتوازن القوى في “إسرائيل” والتي تم اقتراحها في كانون الثاني الماضي، وتتعلق الحجج بما يسمى “تعديل المعقولية”، الذي أقره البرلمان “الإسرائيلي”، الكنيست، في أواخر شهر تموز. ويسعى هذا التعديل إلى الحد من تأثير السلطة القضائية على وضع القوانين والسياسة العامة، وهو يعكس انحدار”إسرائيل” نحو الاستبداد. وفي ظل حكومة نتنياهو، شهدت “إسرائيل” انقساماً عميقاً، حيث يتأرجح الائتلاف على أغلبية انتخابية محفوفة بالمخاطر، وهي تتألف من حزب الليكود المحافظ، إلى جانب الفصائل الدينية والفصائل اليهودية المثيرة للجدل، التي تدعو إلى التطهير العرقي في الأراضي المحتلة و”إسرائيل الكبرى”.
بعد عام من الأحداث غير المسبوقة، بلغت الاضطرابات السياسية والدستورية في” إسرائيل” ذروتها في الثاني عشر من أيلول، عندما استمعت المحكمة العليا إلى المرافعات الشفهية في القضية الحرجة التي ستحدد مستقبل الإصلاح القضائي الذي ستجريه حكومة نتنياهو. ومع ذلك، سيكون له أيضاً آثار مخيفة على الحقوق الفلسطينية. في نهاية المطاف، أيدت السلطة القضائية “الإسرائيلية”، وخاصة المحكمة العليا، بانتظام السياسات والممارسات والقوانين التي تساعد في فرض “نظام الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين”، بما في ذلك تأييد الاعتقالات الإدارية، وإعطاء الضوء الأخضر لتدمير القرى، ودعم قانون يفرض قيوداً على إعادة توحيد العائلة، وهذا يظهر أن الاستبداد سوف يقنن الفصل العنصري، وهذا دافع آخر للهجوم المستمر.
لا سلام بدون تنمية
اليوم، هناك حوالي 5.4 مليون لاجئ فلسطيني في الضفة الغربية وغزة، وملايين آخرين في البلدان القريبة، مثل الأردن ولبنان وسورية وحول العالم، ولكن الفلسطينيين في الأراضي التي تحتلها ” إسرائيل” هم الذين يجدون أنفسهم على حافة الهاوية. ومع استمرار الحرب، دخل الوضع الراهن بين” إسرائيل” وفلسطين مرحلة جديدة تماماً، وربما أكثر فتكاً وتنسيقاً. ومن منظور اقتصادي، فإن ظروف الفصل العنصري تدفع الفلسطينيين إلى كابوس لا يمكن الدفاع عنه بكل بساطة . والأسوأ من ذلك أن عسكرة الأزمة من المرجح أن تؤدي إلى تفاقم الأمور سوءاً قبل أن تتحسن.
إن نصف قرن من الأخطاء السياسية التي ارتكبها أصحاب المصلحة الرئيسيون في الشرق الأوسط لابد وأن يشكل تحذيراً كافياً. كما الوعود والالتزامات بـ “الأمن القومي” لن تحقق أبداً سلاماً دائماً في المنطقة أو في أي مكان آخر، حيث يتطلب ذلك تنمية اقتصادية شاملة.