في 7 تشرين الأول.. تم إسقاط مسرح العمليات الرئيسي
هيفاء علي
وصلت المقاومة الفلسطينية إلى مرحلة تاريخية من خلال مهاجمة الكيان الإسرائيلي المحتل بجرأة غير مسبوقة، وبصورة مباغتة. وهذه هي المرة الأولى التي تنفّذ فيها المقاومة الفلسطينية هجوماً بهذا الحجم في أراضي العدو، والمرة الأولى التي ينجحون فيها بأسر العشرات من الإسرائيليين، وقتل المئات من جنود الاحتلال، وحتى الآن، اتخذ النضال الفلسطيني الذي لا نهاية له شكلين: إما انتفاضة شعبية، حيث ضحّى المتظاهرون بأنفسهم دون أمل في النصر إلا لإظهار مقاومة الشعب الفلسطيني، أو إستراتيجية المعقل، وهي أن تستفيد المقاومة من قدراتها الباليستية المتواضعة لتحدي الكيان المحتل بفضل الكثافة الحضرية في حدود غزة.
في 7 تشرين الأول، تمّ إسقاط مسرح العمليات الرئيسي داخل المستوطنات الإسرائيلية، وانتقلت المبادرة الإستراتيجية إلى جانب المقاومة الفلسطينية التي وحّدت صفوفها للمرة الأولى لإطلاق هذه العملية البطولية ما يشكل في حدّ ذاته حدثاً ذا أهمية تاريخية.
كما أن وجود العديد من الأسرى الإسرائيليين في ضيافة المقاومة يعدل معطيات المعادلة العسكرية، ومن خلال وعده بتدمير حماس، رفع نتنياهو سقف التوقعات إلى مستويات عالية للغاية. ولكن بحسب الفرنسي “برونو غيغ“، الأستاذ المتخصّص بالعلاقات الدولية، فإن نتنياهو محكوم عليه بتكرار ما فعله مرات عديدة، وهو سحق غزة تحت طوفان القنابل. لا شكّ أن الخسائر المدنية الفلسطينية ستكون هائلة، ولكن سيتساءل المراقبون سريعاً عن النتيجة العسكرية، وعن أي فائدة سياسية، فإذا أمرت سلطات الكيان المحتل بشنّ هجوم بري واسع النطاق على معقل غزة، فإنها تخاطر بأن تجد نفسها في وضع أسوأ مما كانت عليه في عام 2014، لأنها سوف تضطر إلى مواجهة مقاومة محنكة، حفّزها انقلابها في 7 تشرين الأول، والذي يحمل لأول مرة ورقة مساومة رائعة لعشرات الرهائن. وبالتالي، فإن الإذلال الذي تعرّض له جيش الاحتلال الإسرائيلي يقترن، في جانب المقاومة، بانتصار استراتيجي حقيقي، فمن خلال نقل مركز ثقل الصراع إلى الأراضي الإسرائيلية، حطمت المقاومة الأسطورة الأمنية العزيزة على نتنياهو، في حين أعادت الصراع إلى أبعاده الحقيقية.
وإلى جانب هذا النصر الاستراتيجي، فإن الجانب الثاني للأحداث الجارية يكمن في أصدائها الإقليمية والدولية. ومن وجهة النظر هذه، فإن انقلاب 7 تشرين الأول هو بمثابة الصدى البعيد، في مسرح عمليات آخر، لحرب “إسرائيل” الخاسرة ضد المقاومة اللبنانية، ففي عام 2006، أظهرت المقاومة اللبنانية أن القوات الصهيونية يمكن أن تتكبّد الهزيمة عندما تهاجم الأراضي اللبنانية. ومن جانبها، أظهرت المقاومة الفلسطينية أن هذه القوات قادرة على الخضوع للتصحيح عندما تكون في موقع دفاعي على أراض يعتبرها الكيان الإسرائيلي ملكاً له لأنه يحتلها منذ عام 1948.
وعليه، حطّم هذان الحدثان أسطورة “إسرائيل” التي لا تُقهر، ومرة أخرى، تدفع تل أبيب ثمن حرب غير متكافئة بين الجيش التقليدي والمقاومة الشعبية، والتي لا تفهم منها شيئاً. ومن الطبيعي أن ينسجم الصراع الحالي مع التغيرات الجيوسياسية الجارية، ذلك أن إصرار الولايات المتحدة وأتباعها الأوروبيين على شنّ حرب عبثية ضد روسيا قد أتاح فرصة سانحة للمقاومة الفلسطينية. وفي الوقت الذي تتورّط فيه واشنطن في صراع بالوكالة دبرته دون قياس العواقب، فإن الهجوم غير المتوقع للمقاومة يسلط الضوء على هشاشة الدولة الاستيطانية ويزعزع استقرار المحور الإمبريالي.
ومن جانبهم، قدّم حلفاء فلسطين الضمانات والموارد التي جعلت هذه المبادرة الرائعة ممكنة، وليس من قبيل المصادفة أن ترحب إيران على الفور بالعملية المفاجئة التي جرت في 7 تشرين الأول، وهي المنخرطة في مواجهة طويلة الأمد مع الغرب. بالإضافة إلى أن التهديدات الإسرائيلية ضد أراضيها والاعتداءات المتكررة على الأراضي السورية، تحافظ على الصراع الذي تعتقد طهران أنه سينضج لا محالة، مع تطور ميزان القوى، حتى تحقيق النصر النهائي. ومع ذلك، فإن القدرات العسكرية الإيرانية، وخاصة قدراتها الباليستية، تجعلها الآن قادرة على ممارسة الردع التقليدي الذي يمنع النوايا العدوانية لخصومها.
وعندما يبدأ الغربيون في ترديد وتكرار دعمهم الكامل “لإسرائيل”، ويدينون الهجوم الذي نفّذته المقاومة الفلسطينية، فذلك يفضح انتقائية الغرب الإنسانية، عندما يتباكى على القتلى الإسرائيليين، بينما يغضّ الطرف عن الضحايا الفلسطينيين الذين تمّ استهدافهم بدم بارد، وهم بنظر الغرب مجرد أرقام وأضرار جانبية، فالضحايا الفلسطينيون هم ضحايا مجهولو الهوية لوحشية المحتل، وضحايا هذه الدناءة الغربية التي تغطي الجريمة الاستعمارية بزخارف الديمقراطية.
لكن مهما يكن، لم يعد الفلسطينيون يتوقعون الحصول على أي شيء من الأوروبيين، لأنهم يعرفون أنهم “بط مقطوع الرأس”. ومثل كلّ حركات التحرر الوطني في التاريخ، فإن مقاومة المحتل يجب أن تعتمد على نقاط قوتها الخاصة، والحدث الحالي يوضح أنها لا تفتقر إلى هذه القوة، خاصةً وأنها ستتمكّن أيضاً من الاعتماد على حلفائها، الذين يرتاحون يوماً بعد يوم لتراجع الغرب الذي كان يعتقد أنه سيد العالم، والذي يرى انهيار هيمنة قاتلة، محكوم عليها بأن ينتهي بها الأمر في مزبلة التاريخ.