مجلة البعث الأسبوعية

أيدي الغرب ملطخة بدماء غزة.. الكيان الإسرائيلي أشبه بألمانيا النازية

البعث الأسبوعية – عناية ناصر

لم يأت الهجوم الذي نفذته فصائل المقامة الفلسطينية في السابع من  تشرين الأول الحالي على المستوطنات الإسرائيلية من فراغ، أو دون سابق إنذار، كما لم يكن الأمر “غير مبرر”، كما تريد “إسرائيل” أن يعتقد الجميع. في الواقع، تعرف العواصم الغربية بالضبط مدى الاستفزازات التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة، وذلك لأن تلك الحكومات نفسها كانت متواطئة لعقود من الزمن في دعم” إسرائيل” التي قامت بتطهير الفلسطينيين عرقياً من وطنهم، وسجنت بقايا السكان في كنتونات داخل فلسطين التاريخية.

ولم يتراجع الدعم الغربي لـ “إسرائيل”، على مدى الأعوام الستة عشر الماضية، حتى مع قيام “إسرائيل” بتحويل القطاع الساحلي في غزة من أكبر سجن مفتوح في العالم إلى غرفة تعذيب مروعة، حيث يتم إجراء التجارب على الفلسطينيين، وقد تم تقنين طعامهم وقوتهم، وحرمانهم من أساسيات الحياة، ومنعهم من الوصول إلى مياه الشرب، ومُنعت مستشفياتهم من تلقي الإمدادات والمعدات الطبية.

إن المشكلة لا تكمن في الجهل بما يتعرض له الفلسطينيين، حيث تم إبلاغ الحكومات الغربية في وقته بالجرائم التي ترتكبها “إسرائيل”، وذلك من خلال برقيات سرية من مسؤولي سفاراتها، ومن خلال تقارير لا نهاية لها من جماعات حقوق الإنسان توثق حكم الفصل العنصري الإسرائيلي على الفلسطينيين. ومع ذلك، لم يفعل الساسة الغربيون أي شيء للتدخل، ولم يفعلوا شيئاً لممارسة ضغوط ذات معنى، والأسوأ من ذلك أنهم كافؤوا “إسرائيل” بدعم عسكري ومالي ودبلوماسي لا نهاية له.

 

تجريد من الإنسانية

لم يعد الغرب أقل مسؤولية الآن مع تصعيد “إسرائيل” لمعاملتها الوحشية لغزة، حيث قرر وزير الحرب يوآف غالانت مؤخراً تعميق الحصار على غزة من خلال وقف جميع المواد الغذائية والكهرباء، وهي جريمة ضد الإنسانية. وقد أشار إلى السكان الفلسطينيين المحتجزين في القطاع – رجالاً ونساءً وأطفالاً – على أنهم “حيوانات بشرية”. إن التجريد من الإنسانية، كما أثبت التاريخ مراراً وتكراراً، هو مقدمة لاعتداءات وأهوال متزايدة.

لكن كيف رد الغرب؟ أعلن الرئيس جو بايدن أن “حرباً طويلة” تنتظرنا بين” إسرائيل” وفصائل المقاومة. ويبدو أن واشنطن تستمتع بالحروب الطويلة، والتي تثبت دائماً أنها نعمة لصناعات الأسلحة لديها وصرف الانتباه عن المشاكل الداخلية. وفي هذا السياق قالت الإدارة الأمريكية أن حاملة طائرات أمريكية في طريقها وذلك لتقديم الدعم لـ”إسرائيل”. ويستعد المسؤولون بالفعل لإرسال الصواريخ والقنابل التي سيتم استخدامها مرة أخرى لقتل المدنيين الفلسطينيين من الجو، فضلاً عن الذخيرة للقوات “الإسرائيلية” لمهاجمة المناطق الفلسطينية خلال الغزو البري القادم. وبطبيعة الحال، سوف يكون هناك وفرة من التمويل الإضافي لـ”إسرائيل”، وأموال لا يمكن العثور عليها أبداً عندما يحتاج إليها المواطنون الأمريكيون الأكثر ضعفاً. وستكون هذه الأموال بالإضافة إلى ما يقرب من 4 مليارات دولار ترسلها واشنطن حالياً كل عام إلى “الحكومة الإسرائيلية” التي تضم فاشيين ومتطرفين عرقيين هدفهم الصريح هو ضم آخر الأجزاء المتبقية من الأراضي الفلسطينية بمجرد أن يتمكنوا من الحصول على الضوء الأخضر من واشنطن.

في سياق متصل لا يريد رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك أن يتفوق عليه أحد، ففي حين تفرض “إسرائيل” عقاباً جماعياً على الفلسطينيين في غزة وتبدأ في ذبحهم في كل مكان بشكل عشوائي. تم تزيين علم” إسرائيلي” عملاق ومضيء على واجهة أشهر منطقة في بريطانيا، وهي 10 داونينغ ستريت، المقر الرسمي لرئاسة الوزراء البريطانية. وقد عرض رئيس الوزراء تقديم “المساعدة العسكرية” و”الاستخبارات”، لمساعدة “إسرائيل” في قصف سكان غزة المحتجزين.

 

معاناة في صمت

الحقيقة هي أنه لم يكن من الممكن الوصول إلى لحظة الكارثة هذه بدون انغماس القوى الغربية ودعمها وتوفير الغطاء الدبلوماسي لوحشية” إسرائيل” تجاه الشعب الفلسطيني، عقداً بعد عقد. وبدون هذا الدعم غير المحدود، وبدون وسائل الإعلام الغربية المتواطئة التي تعيد تشكيل سرقة الأراضي من قبل المستوطنين والقمع الذي يمارسه الجنود باعتبارها نوعاً من “الأزمة الإنسانية”، لم يكن بإمكان “إسرائيل” أبداً أن تفلت من جرائمها، وكانت ستضطر إلى التوصل إلى تسوية مناسبة مع الفلسطينيين. وليس إلى اتفاقيات أوسلو الزائفة التي كان المقصود منها فقط توريط القيادة الفلسطينية ودفعها إلى التواطؤ في إخضاع شعبها.

كما كانت اضطرت “إسرائيل” أيضاً إلى التطبيع الحقيقي مع جيرانها العرب، وليس إرغامهم على قبول السلام الأمريكي في الشرق الأوسط. وبدلاً من ذلك، كانت “إسرائيل” حرة في إتباع ومواصلة سياسة التصعيد بلا هوادة، والتي روجت لها وسائل الإعلام الغربية باعتبارها “هادئة” إلى أن يحاول الفلسطينيون الرد على جلاديهم، وعندها فقط يتم استخدام مصطلح “التصعيد”. إن الفلسطينيين دائماً هم من “يصعدون التوترات”، ويمكن بعد ذلك الاعتراف بأمان بحالة القمع الدائمة التي تفرضها” إسرائيل” وإعادة وصفها بأنها “انتقام”. ومن المتوقع أن يعاني الفلسطينيون في صمت، وذلك لأنهم عندما يصدرون ضجة، فإنهم يخاطرون بتذكير الشعوب الغربية بمدى زيفها، وكيف أن مناشدات القادة الغربيين “للنظام القائم على القواعد” تخدم مصالحهم الذاتية.

وفي هذا السياق كان ينبغي على العواصم المنحازة بشكل أعمى لـ “إسرائيل” أن تدرك أهمية انفجار قطاع غزة المحاصر في وجه الاحتلال، والذي جاء تحديداً بعد ثلاثين عاماً بالضبط من توقيع اتفاقيات أوسلو، التي بموجبها الولايات المتحدة، وقدمت الدول الأوروبية والمجتمع الدولي وعداً للشعب الفلسطيني بحل نهائي يضمن إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، مقابل التخلي عن مقاومة الاحتلال. وكانت النتيجة المريرة انهيار الوعد وتبخر “حل الدولتين”، ليحل محله إطالة أمد الاحتلال وتوسيع المستوطنات واختفاء أي أمل في إقامة دولة فلسطينية عبر المفاوضات، إضافة إلى السيطرة الإسرائيلية على المعابر والحواجز، واستمرار الاعتقالات اليومية، وحرمان اللاجئين الفلسطينيين من حقهم في العودة إلى أراضيهم وديارهم. ولم ترغب الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مصارحة الشعب الفلسطيني حول الحقيقة الواضحة، وهي أن المسار السياسي قد انتهى تماماً، وأنه لا يوجد شريك في “الحكومات الإسرائيلية” المتعاقبة للتوصل إلى أي حل سلمي، في حين أن صعود الفاشية الاستيطانية كان سبباً في تفاقم المشكلة، حيث أزال أي فرصة حتى لإقامة دولة فلسطينية مجزأة وتفتقر إلى السيادة. إن الشعب الفلسطيني أمام أحد خيارين إما العبودية مدى الحياة في ظل سلطة احتلال عسكري تحبسه في معازل نظام الفصل العنصري والاضطهاد المتطور، أو خيار محاولة انتزاع حريته وحقوقه والنهوض لاستعادة كرامته الإنسانية مثل أي مواطن آخر من العالم.

 

العودة إلى العصر الحجري

إلى أين يقود هذا التساهل اللا متناهي من جانب الغرب في نهاية المطاف؟ لقد اكتسبت “إسرائيل” بالفعل الجرأة اللازمة لتوضيح سياستها في التعامل مع سكان غزة الذين يبلغ عددهم مليوني نسمة، وهناك كلمة لوصف هذه السياسة، وهي كلمة ليس من المفترض استخدامها لتجنب التسبب في الإساءة إلى أولئك الذين ينفذونها، فضلاً عن أولئك الذين يدعمون تنفيذها بهدوء. وسواء كان ذلك عمداً أو نتيجة، فإن تجويع “إسرائيل” للمدنيين، وتركهم بلا كهرباء، وحرمانهم من المياه النظيفة، ومنع المستشفيات من علاج المرضى والجرحى، ومن علاج أولئك الذين قصفتهم” إسرائيل”، يشكل سياسة إبادة جماعية، والحكومات الغربية تعرف ذلك أيضاً، لأن القادة الإسرائيليين لم يخفوا ما يفعلونه.

قبل خمسة عشر عاماً، وبعد وقت قصير من فرض “إسرائيل” حصارها الخانق على غزة براً وبحراً وجواً، أكد نائب وزير الدفاع آنذاك، ماتان فيلناي، أن “إسرائيل” مستعدة لتنفيذ “المحرقة” في غزة، وقال إنه إذا كان للفلسطينيين أن يتجنبوا هذا المصير، فيجب عليهم التزام الصمت أثناء اعتقالهم. وبعد ست سنوات، أعلنت أييليت شاكيد، التي سيتم تعيينها قريباً وزيرة إسرائيلية رفيعة المستوى، أن جميع الفلسطينيين في غزة هم “الأعداء”، بما في ذلك كبار السن فيها ونسائها، ومدنها وقراها، وممتلكاتها وبنيتها التحتية، ودعت
إلى قتل أمهات المقاومين الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال حتى لا يتمكنوا من إنجاب المزيد من “الثعابين الصغيرة” من الأطفال الفلسطينيين.

خلال الانتخابات العامة لعام 2019، قام بيني غانتس، زعيم المعارضة آنذاك والذي سيصبح وزيراً للحرب قريباً، بالترويج لمقطع فيديو كان يحتفل بوقته كرئيس لجيش الكيان الإسرائيلي، عندما “أُعيدت أجزاء من غزة إلى العصر الحجري”.

وفي عام 2016، وصف جنرال آخر، يائير جولان، الذي كان في ذلك الوقت الرجل الثاني في قيادة جيش الكيان الإسرائيلي، التطورات في “إسرائيل” بأنها تعكس الفترة التي سبقت المحرقة في ألمانيا. وعندما طُلب منه التعليق على تصريحات جولان خلال مقابلة أجريت معه هذا العام، وافق الجنرال المتقاعد عميرام ليفين على أن “إسرائيل” أصبحت أشبه بألمانيا النازية. إنه أمر مؤلم، إنه ليس لطيفاً، ولكن هذا هو الواقع.

 

دماء غزة

راقب الزعماء الغربيون كل ما يحدث، حيث ظل المدنيون الفلسطينيون في قطاع غزة والذي يشكل الأطفال نصف سكانه يعانون من الجوع، وحرموا من المياه الصالحة للشرب، وحرموا أيضاً من الكهرباء، و من الرعاية الطبية المناسبة، وتعرضوا مراراً وتكراراً للقصف المروع.

تظاهر الغرب بأنه يتألم بشأن التفاصيل القانونية لـ “التناسب”، لكنه من جهة أخرى كان يهلل لـ “إسرائيل”، وتحدث عن “روابط غير قابلة للكسر”، وعن “حقوق لا تقبل الشك”، وعن “الدفاع عن النفس”. وقد ردد هذا الكلام شخصيات مثل وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت.

لم يكن الفلسطينيون بشراً لهم القدرة على التصرف، ولم يكونوا أشخاصاً يناضلون من أجل حريتهم وكرامتهم، ولم يكونوا شعباً يقاوم احتلالهم وسلب ممتلكاتهم، كما يحق لهم القيام بذلك بموجب القانون الدولي، وهو الحق الذي يؤيده ويدعمه العالم عندما يتعلق الأمر بالأوكرانيين.لا، لقد كانوا إما ضحايا أو مؤيدين لقادتهم “الإرهابيين”، وعلى هذا النحو، فقد عاملهم الغرب كما لو أنهم فقدوا أي حق في أن يتم الاستماع إليهم، أو تقديرهم، أو معاملتهم كبشر. ويتوقع السياسيون ووسائل الإعلام الغربية أن يبقى الفلسطينيون في غزة في غرف التعذيب ويعانون في صمت حتى لا تضطرب ضمائر الغرب.

إن دوائر القيادة الإسرائيلية المنفلتة سياسياً وعسكرياً تفتقر إلى أي عقلانية تساعدها على التعامل مع المسائل الجوهرية التي يمليها عليها الموقف الذي قادت نفسها إليه، ومحاولة التخلص من أوهامها التقليدية التي تعتمد على غطرسة القوة.كما أنها خدعت نفسها بالاعتقاد بأنها قادرة على ممارسة القمع والسلطة في الضفة الغربية دون أن تتلقى صرخة مسموعة من الشعب الذي تضطهده، وأنها تستطيع أن تتمتع بالهدوء التام بينما تسرق الأراضي والمنازل الفلسطينية كل صباح، وتنفذ عمليات تطهير عرقية بطيئة ومتواصلة في القرى والبلدات والأحياء السكنية على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي دون أن يقوم هذا الشعب بانتفاضة للمطالبة بحقوقه وكرامته.