سينما القضية الفلسطينية.. أفلام تحاكي الوجع من زوايا مختلفة
البعث الأسبوعية- أمينة عباس
ما يحدث اليوم في غزة من إبادة جماعية من قبل الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن أن يمر مرور الكرام على صنّاع السينما، وقد كانت القضية الفلسطينية من أكثر المناهل الثرية إنسانياً ودرامياً التي شغف بها المخرجون باختلاف جنسياتهم، ويبيّن الكاتب والمخرج الفلسطيني وليد عبد الرحيم المقيم في سورية أن السينما الفلسطينية هي من يصنعها فلسطينيو الهوية بغضّ النظر عن التواجد جغرافياً، ويعتبر السينما التي تتناول حقائق ووقائع القضية الفلسطينية سينما مناصرة لفلسطين وقضيتها بغضّ النظر عن منجِزها لأن القضية الفلسطينية لم تكن يوماً ما قضية بلد واحد، مشيراً إلى أنه وبعد النكبة سنة 1948 وما عانه ويعانيه الشعب الفلسطيني من اضطهاد كان دافعاً لصنّاع السينما من مختلف دول العالم لإنتاج أفلام تحكي عن القضية الفلسطينية من زوايا مختلفة.
تاريخ السينما الفلسطينية
عرفت البلدان العربية فن السينما على صعيد الإنتاج والإخراج خلال عقد العشرينيات من القرن العشرين، وكانت السينما المصرية هي الرائدة عام 1923 ومن ثم السينما السورية التي بدأت عام 1928 أما السينما الفلسطينيّة فثمة اتفاق على أنها بدأت على يد السينمائي الفلسطينيّ إبراهيم حسن سرحان عام 1935 وذلك عندما صوّر فيلماً تسجيلياً قصيراً، وهناك من يعتبر فيلم “حلم ليلة” الذي أخرجه المصري صلاح الدين بدرخان عام 1946أول فيلم فلسطيني روائي طويل وقد عُرض في القدس ويافا وعمّان والقاهرة، ويجمع النقاد على أن الظروف التي كانت تشهدها فلسطين في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين لناحية خضوعها للانتداب البريطاني ومن ثم نكبة عام 1948 كان لها تأثير في عرقلة تطور الحالة السينمائية في فلسطين في الوقت الذي أنتج فيه في مصر فيلم “فتاة من فلسطين”إخراج محمود ذو الفقار تزامناً مع الحرب ويحكى عن طيار مصري يستبسل في الدفاع عن الأرض الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلي وحينما تسقط طائرته تعثر عليه فتاة فلسطينية مصاباً في قدمه فتستضيفه في منزلها وتعالج جراحه ليكتشف الطيار أن المنزل مركز لسلاح الفدائيين فيعجب بشجاعتها ويتبادلا الحب.
سينمائيون فلسطينيون بعد العام 1948
لجأ السينمائيون الفلسطينيون بعد النكبة عام 1948 إلى عدّة بلاد عربية وأنجزوا فيها بعض الأفلام كمحمد صالح الكيالي الذي هاجر إلى القاهرة وأنجز مجموعة أفلام تسجيلية وثائقية، بعضها كان عن فلسطين مثل “قاعدة العدوان” عام 1964 لكنه سرعان ما اتجه إلى سورية التي كانت تشهد صعوداً للإنتاج السينمائي في العام 1969 حيث تمكّن فيها من إخراج فيلمعن النكبة بعنوان “ثلاث عمليات داخل فلسطين” وهو فيلم روائي طويل، وفي العام 1969 أنجز المخرج عبد الوهاب الهندي وهو أحد الشباب الفلسطينيين الذين درسوا السينما في القاهرة فيلميه “كفاح حتى التحرير” و”الطريق إلى القدس” وهما فيلمان روائيان طويلان يتحدثان عن القضية الفلسطينية من خلال حكايات تدور حول الكفاح التحرّري والبطولات التي يبذلها الفلسطينيون ضد العدو الصهيوني، وفي العام 1973 بدأ المخرج الفلسطيني غالب شعث مشواره السينمائي فقدم عدة أفلام، منها “العروس والمهر” وهو فيلم متوسط الطول تحدث فيه عن الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية، أما السينمائيون الذين درسوا في أوربا فقد استطاع بعضهم توفير الدعم والتمويل من قبل شركات إنتاج سينمائية وقنوات تلفزيونية أوربية لتقديم تجاربهم، فكانت تجربة المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي التي بدأت في فيلم “الذاكرة الخصبة” عام 1980 التي يعدّها بعض النقاد الولادة الحقيقية للسينما الفلسطينية الجديدة، كما كانت المخرجة السينمائية الفلسطينية مي المصري التي عاشت بين لبنان وأميركا من أوائل السينمائيين الفلسطينيين الموجودين في الخارج الذين حرصوا على ضرورة صياغة سينما فلسطينية جديدة تتوازى مع الإنتاجات السينمائية التي ظهرت في الداخل الفلسطيني، ففي العام 1983 استطاعت إنجاز فيلمها الأول “تحت الأنقاض” بعد أن أنهت دراستها للسينما في سان فرانسيسكو وهو فيلم تسجيلي طويل، ثم تتالت أفلامها مستثمرة قدرتها على التحرّك بين بيروت ونابلس بسبب جنسيتها الأميركية، كما شهدت التسعينيات من القرن العشرين ظهور عدد من الأسماء في إطار السينما الفلسطينية الجديدة التي تتناول، كما جاء في كتاب الإعلامية والباحثة آلاء كراجة في كتابها ” السينما الفلسطينية الجديدة: صورة البطل ودلالاته” الهمّ الوجوديّ للشعب الفلسطينيّ وتفاصيل الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة، وعكست وعياً متنامياً في قوّة الصورة لدى السينمائيّين الفلسطينيّين، وتطوّراً لافتاً في توظيفها في قوالب فنّيّة استطاعت الوصول إلى العالميّة.
سينما فلسطينية كاملة
ويوضح الكاتب والمخرج وليد عبد الرحيم أنه عَقِبَ النكبة بدأ الفنانون العرب والفلسطينيون بإنجاز أفلام وثائقية وتسجيلية تؤرخ للمأساة، وغالباً ما صوّرت في مواقع مَشاهد التهجير وخيام اللاجئين وهي لا تُعدُّ أفلاماً بالمقاييس الفنية الأكاديمية، ولم يُحفظ منها سوى النَّزر اليسير، مشيراُ إلى أنه مع نشوء منظمة التحرير أنشئت مؤسسات سينمائية وصار هناك ما يُعرف بسينما الثورة التي شارك فيها مخرجون عرب مع استمرار بعض الدول العربية في تقديم أفلام عن القضية الفلسطينية،وكان للبنان وسورية ومصر دَورٌ كبير في ذلك، مؤكداً أن السينما الفلسطينية لم تكن بالمحصلة العمومية ولاعتبارات عدة بمستوى وحجم مأساة النكبة إلا بمقدارها العاطفي الحسي، لكن منذ الثمانينيات حدثت قفزة برأيه بدت فيها ملامح سينما فلسطينية كاملة الشروط الفنية فسطعت عشرات الأسماء والأفلام الجيدة التي حصدت الجوائز في المهرجانات الدولية بسبب اتساع رؤية وخبرات صانعيها.
جوائز عالمية
شاركت أفلام فلسطينيّة في أبرز مهرجانات السينما العالميّة وحققت نجاحاً مُبهراً وأحرزت جوائز على الصعيد العالمي، ومن هذه الأفلام “عرس الجليل” إخراج ميشيل خليفي حيث فاز بجائزة النقّاد العالميّين في مهرجان كان السينمائي الدولي وجائزة غولدن شيل في المهرجان الإسباني العالمي عام 1987 ويدور حول سَعي مختار قرية فلسطينيّة إلى الاحتفال بزفاف ابنه في ظلّ حظر التجوّل المفروض من قبل السلطات الفلسطينيّة، وفي العام 1996 أحرز فيلم “سجل اختفاء” إخراج إليا سليمان جائزة أفضل فيلم أوّل في مهرجان البندقيّة للأفلام السينمائيّة وتناول فيه المخرج ما يواجه المواطن الفلسطيني ومعنى أن يكون المرء فلسطينيّاً، ليعود المخرج نفسه عام 2002 ليحقّق نجاحاً عالميّاً في مهرجان كان السينمائي من خلال فيلمه “يد إلهية” حيث مُنِح جائزة لجنة التحكيم وجائزة فيبرسكي، كما تمّ ترشيحه في المهرجان للجائزة الكبرى وهو الذي أحرز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان شيكاغو السينمائي وجائزة الشاشة العالميّة في مهرجان السينما الأوربيّة، وهو يحكي عن علاقة غراميّة بَيْن شخصَيْن يفصل بينهما حاجزٌ إسرائيليٌ، أما في العام 2003 فقد فاز فيلم “كأننا عشرون مستحيل” إخراج آن ماري جاسر بجوائز عديدةٍ كجائزة أفضل فيلم في مهرجان بالمسبرينغ للأفلام القصيرة وجائزة سيلفر بلاك في مهرجان شيكاغو السينمائي العالمي، ويعد أوّل فيلم عربي قصير يحصل على الاختيار الرسمي في مهرجان كان، وهو يتناول وحشيّة الاحتلال الإسرائيلي، وبعد سنتين نال فيلم “الجنّة الآن” إخراج هاني أبو أسعد جائزة غولدن غلوب كأفضل فيلم بلغة أجنبيّة للعام 2006 وكان أوّل فيلم فلسطيني يتمّ ترشيحه لجائزة الأوسكار وكان قد أحرز ثلاث جوائز في مهرجان برلين السينمائي العالمي للعام 2005 وجائزة أفضل سيناريو في مهرجان السينما الأوربية، ويحكي الفيلم قصّة صديقَيْ طفولة يستعدان للقيام بعملية استشهادية، وفي العام 2013 استطاع المخرج أبو سعدة ومن خلال فيلمه “عمر” الحصول على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان والتي تُمنَح للفيلم المميَّز والجريء، وكان الفيلم ضمن الأفلام النهائيّة الخمسة المُرشَّحة لجائزة أفضل فيلم بلغة أجنبيّة في الأوسكار عام 2014 في حين حقّق الفيلم جائزة أفضل فيلم روائي طويل في جوائز شاشة آسيا والمحيط الهادي للعام 2013 ويحكي الفيلم الذي جرى تصويره في فلسطين قصّة عاشقٍ يناضل من أجل الحريّة.
القضية في السينما السورية
أنجز القطاع الخاص في السينما السورية منذ نهاية الستينيات من القرن العشرين عدداً من الأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية، ففي العام 1969 تم تقديم فيلمين روائيين طويلين هما “ثلاث عمليات داخل فلسطين” إخراج الفلسطيني محمد صالح كيالي و”عملية الساعة السادسة”إخراج سيف الدين شوكت، ومع تأسيس المؤسسة العامة للسينما التي تعد البداية الحقيقية للسينما السورية بدأت مسيرة السينما والقضية الفلسطينية فيها من خلال فيلم “إكليل الشوك” إخراج نبيل المالح عام 1969 وفيلم “رجال تحت الشمس” الذي أنتج في بداية السبعينيات واختير كواحد من أهم مائة فيلم سياسي في تاريخ السينما العالمية وهو يضم ثلاثة قصص هي “الميلاد” إخراج محمد شاهين و”المخاض” إخراج نبيل المالح و”اللقاء” إخراج مروان المؤذن الذي بين في تصريحه للمجلة أن الفيلم تناول بأجزائه الثلاثة العمل الفدائي الفلسطيني الذي كان في أوجه، وأن قصة “اللقاء” كانت عن لقاء عابر بين فدائي فلسطيني وفتاة أجنبية تزور الأرض المحتلة لأول مرة وهي متأثرة بوجهة نظر الدعاية الصهيونية المغرضة، وخلال معايشتها للواقع تكتشف زيف هذه الدعاية وتؤمن بنبل وشرعية المقاومة الفلسطينية، مشيراً إلى أن الفيلم اعتُبر حينها برأي الجميع أحسن فيلم عن قضية فلسطين لجديته الواضحة وبساطته وبعده عن الخطابية فحصل على الجائزة الذهبية في مهرجان قرطاج للأفلام العربية والأفريقية، في حين نال الجزء الذي أخرجه المؤذن “اللقاء” جائزة الفيلم الروائي القصير في مهرجان دمشق الدولي الأول لسينما الشباب وذلك بعد أن اكتفت المؤسسة العامة للسينما بعرض “اللقاء” لرصانة وقوة تعبيره عن المقاومة الفلسطينية.
وفي العام نفسه 1970أنجزت المؤسسة فيلمين قصيرين هما “الزيارة” لقيس الزبيدي و”اليد” لقاسم حَوَل، وهما مخرجان عراقيان عملا في السينما السورية والفلسطينية،أما المخرج خالد حمادة فقد عمد إلى الاتكاء على رواية “ما تبقّى لكم” للروائي الفلسطيني غسان كنفاني ليقدم فيلم “السكين” عام 1971 وفي العام التالي أنتجت المؤسسة أحد أهم الأفلام العربية التي تناولت القضية الفلسطينية وهو فيلم “المخدوعون” إخراج المصري توفيق صالح المأخوذ عن رواية “رجال تحت الشمس” للروائي غسان كنفاني، وبعد حرب تشرين وبالتعاون مع مؤسسة السينما اللبنانية قدمت المؤسسة عام 1974 الفيلم الشهير “كفر قاسم”إخراج اللبناني برهان علوية، وهو يتناول المجزرة التي ارتكبها الصهاينة ضد أهالي قرية كفر قاسم عام 1956 أما المخرج مروان حداد فقد أنجز فيلم”الاتجاه المعاكس” عام 1975 وفيه مناقشة جادة ولأول مرة في السينما السورية برأي النقاد لانعكاسات نكسة حزيران وأثرها على الشباب العربي عموماً والفلسطيني في سورية تحديداً،ليقدم المخرج صلاح دهني عام 1977الواقع الفلسطيني مباشرة في فيلمه “الأبطال يولدون مرتين” حيث دارت أحداثه في مخيم فلسطيني من المفترض أنه موجود في قطاع غزة بعد أن وقع تحت الاحتلال الصهيوني، في حين يستند المخرج سمير ذكرى في فيلمه “حادثة النصف متر” إلى قصة محورها الجوهري فتى فلسطيني على بوابة نضوج الوعي، وبعد تقديم عدة أفلام حضرت القضية لفلسطينية في جانب منها مثل “أحلام المدينة” لمحمد ملص و”شيء ما يحترق” لغـسان شـميط قدم المخرج ريمون بطرس عام 1997 فيلمـه الروائـي الثـاني”الترحال” الذي تدور أحداثه في العام 1948 ليكون الموضوع الفلـسطيني محوريـاً فيه من خلال تسليط الضوء على واقع النكبة،ومن المعروف أيضاً أن المخرج عبد اللطيف عبد الحميد وإن كان يغوص في معظم أفلامه في بيئة محلية إلا أن الحديث عن فلـسطين لم يغب عن معظمها.
المفارقة الأكثر غرابة
لا يخفى على أحد أن السينما العربية لم تنجز عملاً قوياً يعبر عن القضية الفلسطينية حتى الآن مع العزوف عن تناولها في الأعمال الدرامية، ولا يتردد المخرج المصري يسري نصر اللَّه الذي أخرج فيلم “باب الشمس” بجزأيه “الرحيل” و”العودة” وهو عمل ملحمي عن القضية الفلسطينية بالتأكيد على أن تراجع الاهتمام الفني بالقضية الفلسطينية يعود للتخاذل عن طرحها رغم تعدد المجازر الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني،إضافة إلى ما تتطلبه هذه الأفلام من إمكانيات إنتاجية ضخمة لضمان الجودة والتقنية العالية في جميع عناصرها كي تكون على المستوى المطلوب، في حين أن الجزء الآخر من المشكلة برأيه مرتبط بعدم وعي الجهات المسؤولة لأهمية هذه الأفلام التي يجب أن يشترك في إعدادها أساتذة متخصصون في مخاطبة الغرب ومحاولة عرضها في المهرجانات العالمية لتؤثر في الرأي العام العالمي، كما يؤكد المخرج العراقي قيس الزبيدي أن الفرصة الذهبية للقضية الفلسطينية كانت وما تزال في الفيلم الوثائقي لا الروائي،ذلك أن الفيلم الروائي حتى في حالاته الجيدة يبقى أسير تقاليد درامية يمكن أن لا تكون كافية لطرح القضية بالمستوى المطلوب لتبقى المفارقة الأكثر غرابة هي أن الأفلام المتضامنة من الغرب مع القضية الفلسطينية كانت أكثر عمقاً في مساندتها دون أن يغفل أسباب ذلك، ويذكر الباحث بشار إبراهيم في كتاب له عن السينما العربية والقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني مجموعة من الملاحظات، نذكر منها أن السينما العربية اقتصرت بإنتاجها السينمائي عن القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني على ما قدمته السينما المصرية والسورية، ومع نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين بدأت بعض الأفلام بالظهور في هذا البلد أو ذاك، حيث بدأ بإمكاننا الحديث عن وجود فيلم سينمائي عربي يتناول قضايا متعلقة بالموضوع الفلسطيني أو الصراع العربي الصهيوني.