التّوحّد مرّة أخرى في الدّراما و”باسل” يعيد “بدر” إلى الواجهة
البعث الأسبوعية- نجوى صليبه
في مرحلة ماضية من تاريخ الدّراما السّورية ـ البيئة على وجه الخصوص ـ، أصرّ كتّابها على وجود “بركة” الحيّ أو الحارة، فكان إمّاً مجنوناً أو معتوهاً، أو صاحب عاهة في وجهه أو ظهره، لكن أيّاً منهم ـ على حدّ ما أذكرـ لم يقترب من المعوّقين أو أصحاب الهمم أو ذوي الاحتياجات الخاصّة ـ أو أيّاً كانت التّسمية التي نحبّذهاـ كخطّ دراميّ أساس في العمل، أي لم يتوقّف أحدٌ عند ما يعانيه هؤلاء من متاعب ومشكلات في مجتمعهم الضّيق أو الواسع، نتحدّث عن تقبّل الجيران والأصدقاء والأقارب وزملاء الدّراسة والعمل لأشخاص مختلفين عنهم في بعض الجوانب.
قاعدة كسرها العمل التّلفزيوني “وراء الشّمس” تأليف محمد العاص وإخراج سمير حسين، وإنتاج شركة عاج للإنتاج والتّوزيع الفنّي 2010، والذي سلّط الضّوء فيه على موقف الزّوجين صبا مبارك “منى” وباسل خيّاط “عبادة” من فكرة أن يكون لديهم طفلٌ من ذوي الاحتياجات الخاصّة، فالأب في هذا العمل يرفض الطّفل ويطلب من زوجته أن تجهضه وتخفف عنهما وعنه حياةً صعبةً، لكنّها ترفض ذلك وتترك منزلها وتذهب إلى أهلها وهناك تلد طفلاً مختلفاً ومميزاً، تعطيه وقتها وقلبها وحياتها كلّها، إلى أن يأتي الوقت الذي يتصالح فيه الأب مع ذاته وواقعه ويخرج من كآبته وتقبّل ابنه، ويحتضنه بحبّ وشوق، معلناً ندمه، ومستعداً لمسؤولياته الجديدة.
ولسنا هنا في صدد الحديث عن تفاصيل العمل ككلّ، بل سنخصص الحديث عن الدّور الذي أدّاه الفنّان بسّام كوسا “بدر” في هذا العمل، الشّاب الذي يعاني مرض التّوّحدّ ويعمل في محل إصلاح ساعات يملكه حسن عويتي ـ كريم خال منى ـ، والذي لا يعجز عن إصلاح أي ساعة مهما كان نوعها وعطلها، لدرجة أنّ “كريم” كان يستغل “بدر” ويدّعي أنّه هو من يصلح السّاعات لا “بدر” المسكين، أي أنّ لدى “منى” معرفة سابقة بهكذا حالات، فهي تعرف ذكاء “بدر” وحبّه لأخته وعطفه على أمّه وتعلّقه بهما، كما تعرف “علاء” ـ أدّى دوره علاء الزّيبق وهو شاب من ذوي الاحتياجات الخاصّةـ الذي لم توفّر أمّه “نادين” فرصةً للحديث عنه وعن حبّه وحنانه وتميّزه وخسارتها الكبيرة بفقدانه.
“هل بسّام كوسا يمثّل أم أنّه أصيب بالمرض فعلاً؟” عبارة كنّا نقولها من شدّة إتقانه للشّخصية، ذاك أنّه سخّر كلّ جهده ليعطيها أفضل ما لديه، وبحسب تصريحات إعلامية سابقة، أوضح أنّه تعامل مع هؤلاء المصابين بكثرة من خلال زيارته المتكررة لهم، إضافة إلى استعانته بالمراجع والكتب وبعض الأفلام، وعلى الرّغم من كون الشّخصية كانت قليلة الكلام إلّا أنّ حركتها وردود أفعالها وتفاعلها في الحبّ والصّمت والحزن والشّوق كانت تقول الكثير، ولأنّ الموضوع حسّاس جدّاً، بيّن كوسا أنّه على استعداد لإعادة تقديم شخصية المعاق وإن كانت مرض توحّدّ أيضاً، لأنّه لا يوجد مريض توحّدّ يشبه الآخر، مضيفاً: “تعوّدنا على أن نشّبه الأشياء بعضها ببعض.. لقد علّمتني التّجربة أن أكون دقيقاً جدّاً في التّعامل مع الأدوار التي تطرح مشكلات الإعاقة”.
في هذا العمل، طرحت مشكلة الإعاقة بجانبيها الاجتماعي والاقتصادي، أي “بدر” يعيش في أسرة فقيرة يساعدها أيضاً بالليرات القليلة التي يعطيها له صاحب العمل، بينما “علاء” يعيش في أسرة ميسورة الحال، أمّا الطّفل الجديد فقد ولد في أسرة غنية.
أمّا من أعاد إلى ذاكرتنا هذا العمل ـ ولا نقارن أبداً لكن الشّيء بالشّيء يذكرـ فهو شخصية “باسل” في مسلسل “كريستال” التي يؤدّيها الممثّل الشّاب خالد شبّاط، والتي تعاني متلازمة “أسبرجر”، أحد اضطرابات طيف التّوحّدّ أيضاً، لكنّ الحالة هنا تختلف عن حالة “بدر” من حيث مساحة الحوار ومن حيث أنّ المرض لم يكن خلقياً، بل كان نتيجة محاولة أخته “عليا ـ باميلا كيك” التّخلّص منه بخنقه، أيضاً من حيث الوضع الاجتماعي والاقتصادي، فـ”باسل” يعيش في أسرة راقية وغنية جدّاً، لكن أخته لم تكن تسمح له بمغادرة القصر أو غرفته، لدرجة أنّ أصدقاءها لم يكونوا يعرفون أنّ لديها أخٌ شابٌّ، أمّا “في ـ ستيفاني عطا الله” فقد تحوّلت علاقته بها من صديقة طيّبة إلى مستغلة، فقد تزوجته نكايةً بحبيبها السّابق “جواد ـ محمود نصر”.
وكما كوسا، أدهشنا شباط في هذا العمل بأدائه وقدراته، ونقول أدهشنا لأنّ تقمّص هكذا شخصيّات أمرٌ صعبٌ جدّاً، نفسياً وجسدياً، فشباط أيضاً بحث عن المتلازمة المذكورة، وشاهد أكثر من ثمانية أفلام تتحدّث عن هذا المرض، وـ بحسب قوله ـ لم يستطع مشاهدة أفلام أخرى لأنّه كان يصاب بنوبة عصبية وينهار من البكاء بسبب صعوبة هذا الدّور، كما أنّه التقى أحد المصابين وهو طفلٌ في السّابعة من عمره ، يقول في أحد تصريحاته الإعلامية: “تعرّفت عن قرب إليه وإلى معاناته حتّى استطعت تكوين صورةً واقعية لأدائي، وتركيب الشّخصية مثلما شاهدها الجمهور.. حقيقةً تساءلتُ لماذا اختاروني، ولماذا هذه الشّخصية بالذّات سأدخل منها باب دراما واسعاً، وقلت لنفسي ربّما يلزمني خبرةً أكبر للقيام بها، لكنّني قبلت التّحدي ومشيت مع التّيار، وعندما صرخ المخرج “أكشن”، علمت أن لا مفرّ من هذه التّجربة ونسيت كلّ شيء”.
لكن ما صعّب المهمّة هنا على شباط هو ضرورة التّكلّم باللهجة اللبنانية، وهي على الرّغم من قربها من السّورية، لكنّ العمل لا يحتمل الخطأ، وهذا أمرٌ تجاوزه بمساعدة مدرّب اللهجات وبالاجتهاد أيضاً ليقدّم شخصيّة لم يسبق أن قدّم مثلها، ولا سيّما أنّ العمل يندرج تحت مسمّى الدّراما العربية المشتركة، يقول: “شعرت بأنّني أبني مملكة خاصّة بي ستسجلها الدّراما العربية، ونحن كممثلين نرتبط بالظّرف والمناخ الدّرامي الحاضر على أرض الواقع، وهذا المسلسل شكَّل فرصة جيّدة لي في الوطن العربي”.
أداء أشاد به معجبون كثر عبر وسائل التّواصل الاجتماعي، كذلك إعلاميون عرب ومنهم هشام حدّاد فخلال استضافته الممثلة باميلا كيك، أبدى إعجابه ودهشته من قوّة أداء الممثّل، وعندما سألها عمّن اكتشف هذه الموهبة، أجابته: “هو ممثّل سوري ولديه أعمال سابقة”، وربّما هذا ما قصده شباط حين قال إنّ هذا العمل فرصة جيّدة في العالم العربي، أي أنّ هناك ممثّلون سوريون كثر ليسوا معروفين عربياً، وذلك لأسباب عدّة صارت معروفة للجميع.