استفاقة متأخرة.. إيقاف تصدير البطاطا يغرق الأسواق بالمادة المخزّنة ويعيد طعام الفقراء إلى المائدة
لم يبتعد سيناريو قرار إيقاف تصدير البطاطا عن أسلافها من المنتجات الزراعية المحلية، فبعد أن يتجاوز سعر المنتج المحلي المنطق المقبول كوننا “بلد زراعي بامتياز”، تستفيق الجهات المعنية لإصدار قرار بإيقاف تصدير المادة فترة معينة تحت بند تأمين حاجة السوق المحلية من هذه المادة بكميات كافية، إلّا أن رياح هذه القرارات تجري في غالب الأحيان بعكس ما اشتهت سفن المعنيين، فإغلاق باب التصدير يفتح في الكثير من الأحيان أبواب التهريب من جميع الجهات كون المادة سينخفض سعرها مؤقتاً، وبالتالي سيتمّ سحب المادة من قبل “تجّار التخزين” وصولاً إلى شح المادة مجدداً في السوق المحلية وارتفاع سعرها.
مقبرة الثوم!
ارتفاع سعر البطاطا الأسابيع الماضية والذي تجاوز في المناطق الراقية 9000 ليرة، في حين وصل سعرها إلى 7000 ليرة في سوق الهال، جعل من طعام الفقراء وجبة بعيدة المنال هي الأخرى، وأفقد المواطن للمرة الألف ثقته بقدرة الجهات المعنية على تسويق المنتج الزراعي المحلي وتأمين حاجة السوق منه، ليشهد سوق الهال كساد المادة لأيام كثيرة نتيجة امتناع تجار “المفرق” عن شرائها لعدم إقبال المواطنين على شرائها بهذا السعر، لتصدر الحكومة قرارها أخيراً بوقف التصدير وإغراق المنازل بالبطاطا مجدداً، إذ وصف أكرم عفيف “الخبير التنموي” هذه القرارات بأنها تقع جميعها في خانة سوء إدارة الموارد، فالبطاطا التي تباع اليوم بـ8000 ليرة باعها المنتج بـ800 ليرة وكان خاسراً، لتبتعد للمرة المليون الجهة المعنية الوحيدة بالتدخل الإيجابي عن دورها بشراء البطاطا من الفلاح بـ1500 ليرة وتخزينها وطرحها بـ2000 ليرة عندما وصل سعرها إلى 8000 ليرة، بهدف ضبط السوق، لافتاً إلى أن القضية ليست مجرد تصدير واستيراد، بل انعدام وجود قاعدة بيانات يبني عليها الفلاح زراعته من حاجة السوق والاستهلاك وفائض التصدير كي يعلم الكميات المحدّدة التي يجب عليه زراعتها تجنباً للخسارة وفلاحة محصوله بأرضه، كما جرى في موسم الثوم الذي يباع اليوم بحدود الـ50 ألف ليرة للكيلو، في حين باعه الفلاح في موسمه بـ250 ليرة وكانت تكلفة نقله في السيارة إلى سوق الهال ألف ليرة للكيلو ليقوم المزارعون بفلاحة موسمهم وطمره في الأرض، وصولاً إلى سعر خيالي له اليوم!.
غياب الدعم
ولأننا لا نستطيع المنافسة خارجياً في مثل هذا الوقت من كلّ عام بهذه المادة في ظل وجود البطاطا المصرية والتركية والإيرانية ذات الجودة الأعلى، نشهد أن قرار إيقاف التصدير يتكرر في هذه الأشهر، وفق ما أوضحه محمد العقاد رئيس لجنة مصدّري الخضار والفواكه في سوق الهال، نافياً أن يكون التصدير له علاقة بغلاء المادة في ظل غياب الدعم الحكومي للفلاح من محروقات لسقاية المحصول في الصيف وأسمدة، وبالتالي قلة الإنتاج وارتفاع التكاليف مضافاً لها ضعف القدرة الشرائية لنصل إلى انخفاض كبير في استهلاك المادة، ونوّه العقاد بأنه ومع بداية الشهر القادم سيكون هناك موسم خريفي جديد، وبالتالي ستنخفض الأسعار ويرتفع استهلاك المواطنين من المادة، لافتاً إلى أن التصدير هو حالة صحيّة اقتصادياً وتعود بالفائدة على الفلاح وعلى اقتصاد البلد كون الاستهلاك المحلي لا يتوافق مع الإنتاج في ظل ضعف القدرة الشرائية، وبالتالي الحاجة إلى تصريف المادة في الأسواق الخارجية.
البطاطا المخزّنة
في المقابل تحدث أحمد الهلال رئيس مكتب التسويق في اتحاد الفلاحين عن سبب ارتفاع سعر البطاطا خلال الفترة الماضية نتيجة ارتفاع كلف الإنتاج من محروقات وأجور نقل وأسمدة وما تبعها من ارتفاع في أسعار جميع المحاصيل الزراعية، ويُضاف إليها تصدير البطاطا كباقي المنتجات وما تبعه من زيادة في ارتفاع السعر، لافتاً إلى أن الاتحاد وباسم الفلاحين يقف دوماً مع قرار تصدير البطاطا لا وقف تصديرها، ولاسيّما أن الكميات الموجودة كافية للاستهلاك المحلي وللتصدير معاً، فالفلاح “يبلع الموس عالحدين” ويخسر مرتين، خاصّة وأن قرار إيقاف التصدير لا يستفيد منه الفلاح بعد أن باع إنتاجه للتجار الذين قاموا بدورهم بتخزينه لطرحه في السوق كما هو اليوم بسعر مرتفع. ولفت الهلال إلى أن قرار إيقاف التصدير لشهر آذار سيؤدي إلى طرح البطاطا المخزّنة في القريب العاجل بكميات كبيرة وأسعار منخفضة، ولم ينكر رئيس مكتب التسويق أن إيقاف التصدير سيفتح باب التهريب للمادة إلى دول الجوار فالتهريب حالة طبيعية موجودة في كل دول العالم، لكن كون كميات هذه المادة ليست كبيرة جداً فسيكون التهريب إن وجد بحدوده الدنيا وبكميات بسيطة.
فكر جديد
وبالعودة لرأي الخبير التنموي عفيف، فهو لم يُخفِ خروجنا اليوم من أننا بلد زراعي إلى بلد غير زراعي بسبب سياسة التسعير وإدارة الموارد وغيرها من السياسات الفاشلة التي أودت بنا من إنتاج زراعي تجاوز الـ50% إلى 10%، فقرارات إيقاف التصدير يجب أن تُتخذ عندما نحدّد نحن حاجة السوق، فهل من الصعب تحديد حاجة السوق؟، لافتاً إلى أن قرارات فتح التصدير وإيقافه في الوقت الذي يحترق به المواطن بنار الأسعار والمنتج بتكاليف الإنتاج والخسائر باتت غير مقبولة وغير معقولة، خاصّة وأن تكاليف الإنتاج الزراعي في بلدنا هي الأعلى في العالم، فالفلاح يشتري ليتر البنزين بعشرين ألفاً، وهذا السعر الأعلى في العالم لليتر البنزين، كذلك الأمر بالنسبة للسماد والمازوت وغيرها من التكاليف التي يدفعها بأعلى سعر في العالم في ظلّ تفاقم الغش الناتج عن استيراد المبيدات والأسمدة المغشوشة، لذا نحن اليوم بحاجة إلى فكر جديد غير معقد.
ميس بركات