الصفحة الاخيرةحديث الصباح

في الصميم

عبد الكريم النّاعم

قال صديقي: “قرأتُ كلاماً يقول صاحبه ما معناه أن القتال الدائر الآن بين أتباع الديانات الإبراهيمية، وأنّه لا علاقة له به، ولم أشعر بالارتياح لما قرأت”.

قلت: “معك حقّ وأنا قرأتُه، وفي هذا القول أكثر من ثغرة، ولا نريد أن نشكّك في وطنية قائله، وأوّل هذه الثغرات، وأكبرها أنّ قيادات الغرب المنحازة لإسرائيل هي قيادات مسيحيّة، وفي فلسطين المحتلّة، كما تعلم، ثمّة مسلمون وثمّة مسيحيّون، وتلك القيادات لم يهتز لها جفن لقصف الكنائس والمواقع التي تحمل صبغة مسيحيّة، وهذا يؤكّد أنّ تلك القيادات تتصرّف بما يُرضي إسرائيل، تلبية للرغبات الأمريكيّة المتصهينة، وأنّ المصالح الاقتصاديّة، والسياسيّة هي ما يعني تلك القيادات، وبلا خجل، وبوحشيّة، يتابعون الدمار الذي يشمل غزّة بأطفالها، ونسائها، وشيوخها بينما المقاتلون الفلسطينيّون أقلّ أضراراً بما لا يُقاس، وهم لا يعنيهم إلاّ مصالح الاحتلال الإسرائيلي، وفي ذلك من السقوط الأخلاقي ما يثير الغضب والاشمئزاز، وليس حال بعض “حكّام العرب”، ولا أقول “الحكّام العرب” أحسن حالاّ، بدءاً من جماعة أوسلو، وصولاً إلى الذين يمنحون إسرائيل فرصة متابعة القصف بينما هم يتشدّقون بضرورة إيصال المساعدات، وبيدهم كسر هذا الطّوق لو أرادوا، فهم يتلطّون وراء جدران التصريحات، والكلمات التي لا تُغني، وهم شاؤوا أم أبوا يعطون إسرائيل وقتاً إضافيّاً لارتكاب تلك المجازر التي لم يعرف العالم مثيلاً لها من قبل”.

قال: “كلامك ذكّرني بما كتبه المفكّر اللبناني نجيب عازوري، في كتابه (يقظة الأمة العربيّة)، الصادر عام 1905، أي قبل إجلاء الأتراك عن هذه البلاد، ولقد أحضرتُ هذا النص حيث يقول: “إنّ ظاهرتين مهمّتين، متشابهتيّ الطبيعة، بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن، تتضحان في هذه الآونة في تركيّا الآسيويّة، أعني يقظة الأمّة العربيّة، وجهد اليهود الخفيّ لإعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة على نطاق واسع، ومصير هاتين الحركتين هو أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى، وبالنتيجة النّهائيّة لهذا الصراع بين هذين الشعبين اللذين يمثّلان مبدأين متضاربين يتعلّق مصير العالم بأجمعه”.

قلت: “هذا وعي يبلغ حدّ النّبوءة السياسيّة، فها نحن نرى أنّ العالم كلّه مشدود إلى ما يجري، إمّا انحيازاً لإسرائيل، وإمّا تظاهرات شعبيّة حتى في أوروبا ضدّ إسرائيل، ممّا يدلّ على أنّ حكومات الغرب المتوحّشة لا تلتفت إلى إرادة جماهيرها، بل هي مسوقة بالسوط الأمريكي، فهي ما تكاد تملك من أمرها شيئاً جذريّاً، منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وهذا الأمر جليّ في موقفها، لا ممّا يجري فوق أراضي فلسطين المحتلّة، بل وفيما يجري في أوكرانيا، وهذا الموقف لحكومات الغرب ليس جديداً، فمنذ قرابة سبعين عاماً يقول المؤرّخ المعروف توينبي حول هذه النّقطة “الحقّ والباطل واحد، كما في أيّ مكان آخر، إنّ ما يميّز القضيّة الفلسطينيّة هو أنّ العالم أصغى إلى الفريق الذي قام بالهجوم، وأعطى الضحيّة أذناً صمّاء”، وهذا يؤكّد أنّ الإصرار على فكرة التحرير بعيداً عن رأي العواصم الماسونيّة المتصهينة هو الخيار الوحيد، ولا بدّ من حشد كلّ الطاقات، وسينتج عن ذلك آلام كبيرة، وأضرار بالغة، ولكنّها هذه المرّة لا تصيبنا وحدنا بل تصيب العدو، فهو لأوّل مرّة في تاريخه يعرف شعبه معنى الخوف، ومعنى النّزوح من بعض المناطق، بل وثمّة مَن يتساءل من الإسرائيليين عن مصير هذا الكيان، فهم في مأزق حقيقيّ، وعلى قدرة حلف المقاومة على إدارة الأمور بحكمة، ووعي، وشجاعة يتوقّف مصير هذه المنطقة، التي لم نعد فيها منفعلين فحسب، بل وفاعلين.

aaalnaem@gmail.com