مجلة البعث الأسبوعية

أبو الفنون… من فلسطين إلى سورية

البعث الأسبوعية- أمينة عباس

بات معروفاً أن فن المسرح هو الفن الأكثر التصاقاً وتعبيراً عن هموم وقضايا الجماهير.. من هنا برز دور المسرح في الأراضي الفلسطينية المحتلة رغم كل الظروف القاسية المحيطة به قبل النكبة وما تلاها من حيث التوعية، وهو الدور الذي حرص عليه المسرح في البلاد العربية كلها تجاه قضية كبرى ومصيرية تمس الجميع، مع التأكيد على أن القضية الفلسطينية أكبر من كل الأعمال المسرحية التي تناولتها أو يمكن أن تتناولها، فما يعانيه أهلنا اليوم في فلسطين كباراً وصغاراً من إبادة وقتل أبلغ من كل ما يمكن أن يقال.

بدايات المسرح الفلسطيني

ارتبط المسرح في فلسطين منذ أوائل العام 1919 بالنوادي والجمعيات التي انتشرت في البلاد،حيث غرست بذور نهضة تمثيلية مسرحية فيها، فسجلت فرقة الكرمل التمثيلية المحاولة الأولى بتقديم مسرحية “هملت” لشكسبير تعريب طانيوس عبدو إخراج جميل الياس خوري.. وفي مرحلة لاحقة تقدم المسرح الفلسطيني خطوة أخرى بتقديم المسرح التراثي كمسرحية “عنترة، مجدولين، والي عكا” التي مُثّلت في ألمانيا قبل أن تُمثّل في فلسطين.. وفي خطوة تالية ومع تصاعد وتيرة المقاومة الفلسطينية للاحتلال البريطاني والاستعمار الصهيوني ظهرت المسرحية السياسية في فلسطين رغم صرامة الرقابة البريطانية التي كانت تعامل بقسوة المسرحيات السياسية المطبوعة التي فجرت أحزان الناس ونبهتهم إلى مآسيهم، وخرج في فترة بين الحربين العديد من المسرحيات التي تحارب الصهيونية وتحض على عدم بيع الأراضي للصهاينة مثل مسرحية “الفلاح والمسمار “لمحمد دروزة، و”العدل أساس الملك” لنصري الجوزي، و”في سبيلك يا وطن” للأخوين طرزي، وعُدّ جميل حبيب بحري من أهم الكتّاب الذين كتبوا للمسرح قبل العام 1948 حيث قام بكتابة 12 مسرحية، وتذكر الدراسات أن الفرق حينها كانت تقدم عروضها في المقاهي والمدارس والأندية، وكان بعضها يتجول في أنحاء فلسطين والأردن مثل فرقة الهيئة التمثيلية لنادي الشبيبة في بيت لحم والتي كان من أبرز أعمالها مسرحية “الاستبداد في تلك الأنحاء” وحين وقعت النكبة عام 1948تعرقلت مسيرة المسرح الفلسطيني، لكنها من جانب آخر غذّت الذات الفلسطينية وأثارت الإبداع واحتل موضوع النكبة معظم الكتابات المسرحية وشهدت فترة ما بين العام 1948 والعام 1967 ظهور العديد من الفرق المسرحية مثل “بلالين، دبابيس، المسرح الشعبي، المسرح الحديث، كشكول، المسرح الحي” وبرزت أسماء بارزة نشطت لإعادة الحياة إلى المسرح من أبرزهم نصري الجوزي، وبالمقابل واجهت الحركة المسرحية مجموعة من الصعوبات، مثل قوانين الاحتلال وأوامره الرقابية التي حدّت كثيراً من انطلاق المسرحيين،كما تأثرت الحركة المسرحية بعامل عدم وجود هيئة مسؤولة تنظم علاقات المسرحيين وتدعمهم، وشكلت ندرة النصوص المسرحية كذلك عاملاً أعاق المسرح عن النهوض، ولكن بعد العام 1967 أطلّ جيل جديد من الكتّاب أخذ يقدم بنجاح مجموعة من الأعمال المسرحية في الضفة الغربية وأماكن أخرى من فلسطين،فكتب سميح القاسم مسرحية “قرقاش” ومعين بسيسو “ثورة الزنج” و”شمشون ودليلة” وكتب غسان كنفاني “الباب والقبعة والنبي” في حين نشأت في الضفة الغربية مجموعة من المؤسسات التي تعنى بالمسرح مثل: مسرح الحكواتي، مسرح القصبة، فرقة عشتار للفنون المسرحية.. أما في قطاع غزة فقد بدأت منذ الثمانينيات مجموعة من المحاولات لخلق حالة مسرحية، لكنها ظلت في طور التجريب، وبعد ظهور السلطة الفلسطينية عام 1994طرأ نشاط على المشهد المسرحي حين أنتجت الفرق المسرحية مجموعة من المسرحيات مثل “العنب الحامض” إخراج خليل طافشو”السيد بيرفكت” إخراج حسين الأسمر.

مسرح فلسطيني في سورية

احتضنت دمشق المسرح الوطني الفلسطيني الذي نما وترعرع فيها، وقد حمل الفنانون السوريون عبء مسيرته وبقوا أوفياء له وهو الذي مر بعدة مراحل، الأولى بدأت عام 1968 وقد غلب على عروضها الحماس والعاطفة والخطابية المباشرة، والمرحلة الثانية تميزت بتعدد المخرجين والرؤى مما حال دون وجود سياق منهجي يعطي سمات محددة لهذا المسرح وفقاً لكلام الفنان زيناتي قدسية، حيث كان كل مخرج يتبنى النص الذي يحبه، في حين قاد المرحلة الثالثة المخرج جواد الأسدي الذي بدأ بالتعاطي مع عروض هذا المسرح عبر مسرحية “العائلة توت” التي حازت على جائزتين في مهرجان قرطاج في تونس عام 1983ومن ثم عبر مسرحية “ثورة الزنج” تأليف معين بسيسو الذي حاول من خلالها التأكيد على أن التحرير لن يكون إلا بالثورة الصادقة والنقية، ويُعدّ الأسدي من أكثر المخرجين الذين قدموا أعمالاً مسرحية للمسرح الوطني الفلسطيني، ولعل مسرحية “الاغتصاب” تأليف سعد الله ونوس التي قُدمت عام 1991 الأكثر شهرة في هذا الإطار، مع الإشارة إلى أن الإنتاج المسرحي الأول لهذا المسرح كان مسرحية “محاكمة الرجل الذي لم يحارب” تأليف ممدوح عدوان، إخراج حسن عويتي حيث اعتُبرت هذه المسرحية بداية لمسرح فلسطيني بالمعنى الكامل للكلمة، وجاءت بعدها مسرحية “الكرسي” تأليف معين بسيسو إخراج خليل طافش لتكون قفزة ليس للمسرح الفلسطيني فحسب بل للمسرح العربي عامة، وقد حققت هذه المسرحية شهرة كبيرة وصدى واسعاً ليس في الوطن العربي فحسب، بل في كثير من البلاد الأوربية عندما مثّلت فلسطين في مهرجان المسرح العربي في الرباط سنة 1974 وقد وصفتها صحيفة “لوموند” الفرنسية حينها أنها “أهم المسرحيات التي عالجت قضية فلسطين” وتُعدّ مسرحية “مؤسسة الجنون الوطنية” من أواخر عروض المسرح الوطني الفلسطيني وهي من تأليف سميح القاسم إخراج فواز الساجر.

فلسطين في المسرح السوري

تناول المسرحيون السوريون القضية الفلسطينية وقدموا مسرحيات عديدة، خاصة بعد حرب حزيران 1967 مثل “دخان الأقبية” ليوسف مقدسي و”السيل” لعلي كنعان، وقد عالجت الأخطار التي تحيق بالوطن العربي جراء الاعتداءات الإسرائيلية، كما قدّم المسرح السوري من خلال علي عقلة عرسان العديد من المسرحيات، من أهمها “الفلسطينيات” و”الغرباء” حيث مال في الأولى إلى التسجيلية وفي الثانية اتجه نحو الطابع الدرامي المتفاعل، وقدم مصطفى الحلاج مسرحيتَي “أيها الإسرائيلي حان وقت الاستسلام” و”احتفال ليلي خاص بدريسدن” ومسرحية “كفر قاسم” وهي خليط من المسرحية التسجيلية والميلودراما والأوبرات وهي لجان ألكسان، وكتب خالد محي الدين البرادعي “أناشيد الانتصار” وعدنان مردم بك “فلسطين الثائرة” و”دير ياسين” في حين عرض الكاتب المسرحي سعد الله ونوس القضية الفلسطينية وأشكال المقاومة والنضال العربي والفلسطيني وأدان الاحتلال الصهيوني بشدة من خلال مسرحية “الاغتصاب”.. وتأتي مسرحية “القنبلة” وهي ضمن مجموعة مسرحيات لرياض عصمت تحت عنوان “طائر الخرافة” لتصور إنساناً يعيش في الأرض المحتلة، والمسرحية فيها خصائص مسرحيات المقاومة، فهي تفترض وقوف الفلسطيني أمام الصهيوني ثم مجادلته بحقه في الأرض والحياة،  كما قدم الأب الياس زحلاوي في مسرحيته “المدينة المصلوبة” القضية الفلسطينية، واختار لمسرحيته “أسبوع الآلام” مداراً تدور فيه آلام الشعب الفلسطيني نحو أفق الحق، وما كتبه زحلاوي في هذه المسرحية برأي النقاد ينهض على مقاومة الهزيمة في اكتساب صلابة روحية أقوى تقارع العدوان، أي ارتكازه على الكلمات التي تولد وتفجر الثورة وتتحاشى الانهزامية والنكوص إلى الخلف، وفي مسرحية “الطريق إلى كوجو” يرصد الياس زحلاوي  أيضاً قصة الأرض وطرد الفلسطينيين ثم يستفيض باكتشاف حركة المقاومة لصدّ العدوان، أما الكاتب وليد مدفعي فقد أدرك أهمية الانخراط في المسرح المقاوم كما في مسرحيته “وعلى الأرض السلام” وغيرها من مسرحياته كـ “البيت الصاخب” و”بعدين” وإذا أردنا أن نستفيض أكثر في الأعمال المسرحية التي تناولت القضية الفلسطينية في المسرح السوري فإن القائمة تطول لأنها  كانت الهم الأكبر لكل المسرحيين ولكننا نشير  إلى أن المسرح القومي قدم عام 1970 مسرحية” أغنية على الممر” تأليف علي سالم، إخراج محمد الطيب، وفي عام 1971 قدمت فرقة نقابة الفنانين مسرحية” حفلة سمر من أجل5 حزيران” تأليف سعدالله ونوس، إخراج علاء الدين كوكش، في حين قدم مسرح أحوال-ممدوح عدوان وزيناتي قدسية” عروضاً عديدة منها” القيامة –الطيراوي” ولم يتوقف قدسية عن تقديم الأعمال المسرحية التي تتحدث عن القضية الفلسطينية وفي رصيده أعمال عديدة منها مونودراما ” أبو شنار”.

الفن الكبير

يقول برتولد بريخت: “الفن الكبير يخدم أهدافاً كبرى، وإذا كنتم راغبين في التأكد من مدى جسامة عمل من الأعمال الفنية فلكم أن تسألوا ما هي طبيعة الأهداف الكبرى التي يخدمها مثل هذا العمل؟ والعصور التي تفتقر إلى أهداف كبرى تفتقر في الوقت نفسه إلى فن كبير”.

يشير المخرج المسرحي تامر العربيد ردّاً على سؤال “هل استطاع  المسرح أن يكون على مستوى المسؤولية في طرح ما في قضية العرب الأولى من مشاكل وهموم؟” إلى أنه ومنذ نهايات النصف الأول من القرن العشرين بقيت قضية فلسطين القضية المحورية والأولى التي شغلت الشارع العربي على اختلاف مستوياته الفكرية وتشعباته السياسية وتياراته الإبداعية، لذلك كان من البديهي والطبيعي أن ينعكس هذا الاهتمام بالقضية الفلسطينية على المثقفين والمبدعين في مختلف مجالات الفن والإبداع والثقافة، وأولها الفن المسرحي ونتاجات المسرحيين العرب، مبيناً أن الأعمال المسرحية التي تناولت القضية الفلسطينية تعددت وتنوعت وحاولت طرح بعض إشكالياتها، ومنها ما غلبت عليه النزعة العاطفية والروح الحماسية والمباشرة تماشياً مع بعض الظروف والمناسبات والأحداث، وأعمال حاولت العمل على طرح أسئلة جادة عن واقع ومستقبل القضية الفلسطينية من خلال نصوص مسرحية جادة ذات بنية درامية ومعالجة فكرية عالية المستوى كانت في طرحها صدى لجوهر القضية وتحرك المياه الراكدة في المسرح العربي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في الوقت الذي يرى فيه العربيد أن غالبية النصوص التي تناولت  القضية كانت  قليلة التي عملت على رفع سقف الترويج لحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة كحق طبيعي  لشعب احتلت أرضه واغتصبت حقوقه وسلبت حرياته من خلال طرح فكري يجعل من قضية الإنسان الفلسطيني في موقع الند لا في موقف المستجدي لحق هو صاحبه من خلال العمل على تبني فكر وثقافة المقاومة في المسرح العربي عبر نصوص تتبنى هذا الفكر وتكون قادرة على الإقناع بجدواه ومشروعيته لشعب لا يجد سوى المقاومة لغة للحفاظ على وجوده وأسلوباً لإعلاء صوته بالحق.

 

رهان الإنسانية

يرى الكاتب الجزائري واسيني الأعرج أن رهان الأدب والمسرح الأساس في تعامله مع القضية الفلسطينية أن يخرجها من كونها قضية عربية فقط عرضة للانتكاسات والصراعات والمصالح والحسابات التي ترهق الفلسطيني والعربي المحب لهذه الأرض، وأن يوصل صرختها إلى أبعد نقطة على هذه الأرض.. يقول الأعرج: “السؤال هو كيف ينتقل الأدب والمسرح في تعاملهما مع قضية قومية إلى التعامل مع فلسطين كقضية تضع الفنان أمام رهان الإنسانية بحيث تصبح القضية الفلسطينية قضية أشمل بامتياز، تهمّ الفنان العربي بنفس القدر الذي تهم فيه الفنان الأميركي والفرنسي والصيني؟ أي الانتقال من الإحساس الضيق إلى الإحساس الأشمل”.

زمن فلسطيني بامتياز

يؤمن الكاتب المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد أن القضية الفلسطينية اليوم هي أهم الأهداف وأقواها وأنبلها، وأن هذا الزمن الذي نعيشه هو زمن فلسطيني بامتياز، ولن يرتقي أي عمل مسرحي أو غير مسرحي عربي لما يحدث في فلسطين اليوم، خاصةً مع التراجع الذي يعيشه المسرح مع المد التجريبي ودعواته التخريبية وخطاب الحداثة وما بعد الحداثة الذي همّش اللغة اللفظية وأعطى الأهمية كلها للغة الجسد، فقفز على النص ونادى بموت المؤلف وألغى الرسالة والقضية في المسرح وركّز على البعد الجمالي فيه على حساب البعد الوظيفي، وركّز على الكماليات بدل الأساسيات، وعلى الآني بدل التاريخي.