أكفاننا مجنّحة
غالية خوجة
الأرجوان يتراكم أنهاراً من موسيقا تنشد “موطني”، والظلال الخضراء تصعد إلى السماء لتخبر الملائكة أنها أصبحت أكفاناً مجنّحة، وأن الوقت في فلسطين صار بملامح الأمهات والآباء والجدات والأجداد، وأن الأرض لم تعد بحاجة إلى الكلام لأن المواقف هي العبرة.
وخلف المشاهد المتواصلة للحرائق والقذائف المعادية، ما تزال الطفلة تبحث عن أمها التي صرخت حين رأت منها أثراً: هذا شعر أمي.
الأرجوان الذي على الأرض يردّد الصوت مثل صدْعٍ أزلي: شعر أمي.
الأرجوان الذي يصعد إلى السماء ليلوّن الشمس آنَ الشروق وآنَ الغروب، يصير كفناً بحجم الكون ليحضن الأكفان الأخرى ويحلّق في الليل إلى القمر، ويردّد برجْعٍ: إنها أمي، إنه أبي، إنه ولدي، إنها جدتي، إنها زوجتي، إنه زوجي، إنها ابنة جيراننا، إنهم أقرباؤنا.
وبين الصدْع والرجْع تنبت أنهار أرجوانية أخرى، لا تلبث أن تتحول إلى أكفان بيضاء مجنّحة، تنبع من الأرض إلى السماء لترسم في الفضاء خارطة فلسطين العربية، وفي الليل، يرتجف القمر الذي لم يعد يتسع لهذه الأجنحة، فتبزغ، فجأة، نجمتان خضراوان، الأولى لشهداء سورية، والثانية لشهداء فلسطين.
تقول الملحمة: إن من يرى هاتين النجمتين في منامه فهو محظوظ بالشهادة، أو من يراهما في يقظته، فهو محظوظ بالكثير من الأجنحة.
الأجنحة ترفرف في قلوبنا أيضاً، فتبزغ النجمتان الخضراوان في صدورنا، ونحلق حتى احتراق الباطل وانطفاء الظلم.
الأكفان المجنّحة تهاجم الظالمين في يقظتهم ومنامهم وتشكّل لهم كوابيس ضوئية تطير من وريد لوريد، لأن الإنسان، أي إنسان، مهما غطّى ضميره بالظلم والقتل، فلا بدّ أن يصحو لحظة، يصحو قبل احتضار صاحبه، يصحو ليرى كيف أغرق ضميره بكلّ هذه الأكفان البريئة المجنّحة التي تهاجم أوردته، موقناً أن الربّ، أي ربّ، لن يتسامح مع القاتل، وأن ضميره المحترق سيحرقه في تلك اللحظة الأخيرة، تلك اللحظة التي لا ينفع معها الارتداد عن الظلم.
الأكفان المجنّحة تحلّق وتحلّق، وبين كسوف وخسوف، تلتقي بأهاليها لتكمل حياتها في بيوتها التي هدمها الاحتلال فوق ساكنيها، وهناك بين أنقاض المشافي، يهبط أحد الأكفان الصغيرة ليبحث عن أمه التي كان يحمل لها كيس “السيروم” وهو المصاب بحروق في جسمه، فلا يرتجف، ليكمل واقفاً رفْع “السيروم” إلاّ أن القذائف المعادية تعود للقصف مراراً وتكراراً، فيصاب أحد أجنحته، وينتثر دمه مع دم أمه والشهداء الآخرين، وتغور في الأرض.
الأرض التي صارت أرجواناً يمدّ جذوره عميقاً في قلبها، تحتضن أوردة الأطفال لتنسجها مع أوردة أهاليهم وأجدادهم القدامى الذين استشهدوا منذ مائة عام، ومنذ سبعة آلاف عام، الأرض تنسج الأرجوان أشجار زيتون وبرتقال وزعتر أعمارها أكبر من عمر أمريكا على كوكبنا، وتنشد “موطني” مع رفيف الأجنحة المطلة من كلّ ذرة تراب، من كل جذر من الجذور، من كل نجمة من النجوم، من كل شمس تشرق بأشعة أصبحت أراجيح للأكفان الصغيرة لتكمل طفولتها وهي تتزحلق بين الأشعة لترجع إلى بيتها وأسرتها، إلى مقاعد مدرستها ورفاقها الطلاب، إلى دفاترها لتكمل الواجب المدرسي، إلى صحن فطورها الذي تشظّى.
الأجنحة تعود كلّ سنة في السادس والسابع من تشرين الأول لتزرع علم فلسطين العربية من النهر إلى البحر، الأجنحة لا يستطيع الأعداء مطاردتها بكافة وسائلهم التكنولوجية، ومعداتهم القتالية، لأنها الأكبر والأقوى والأشد نصوعاً، لأنها الحق الذي مهما طال الزمان به فهو المنتصر.