مجلة البعث الأسبوعية

تهدّد في العلن وتتوسّل خلف الكواليس.. واشنطن تبعث رسائل تهدئة إلى المحور.. والكلام للميدان

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي

في الوقت الذي ظنّت فيه الإدارة الأمريكية أن الفرصة أصبحت سانحة لها لإعادة تموضعها القوي في المنطقة وفرض إرادتها على الجميع باستغلال مفهوم “الصدمة الدافعة” عبر استخدام عملية “طوفان الأقصى” ذريعة لدعم الكيان الصهيوني في عدوانه المستمر على غزة منذ نحو سبعة وثلاثين يوماً في محاولة لتحقيق نصر عسكري على الأرض في غزة يكون رادعاً لجميع القوى في المنطقة ومانعاً لها من التفكير حتى بمقاومة “إسرائيل”، فوجئت الأخيرة بعد الفشل المتتالي لجيش الاحتلال الصهيوني فيما سمّاه “العملية البرية” في غزة، بأنها قد ورّطت نفسها في حرب خاسرة لا تستطيع التكهّن بنتائجها وامتداداتها، حيث لم يتمكّن هذا الجيش المدجّج بالسلاح الحديث والحماية الجوية الأمريكية، من تثبيت موطئ قدم له على أرض غزة، بينما تؤكّد خسائره في الميدان العجز والإحباط الكبيرين اللذين يعانيهما بعد أن زجّ أفضل ألويته في هذه الحرب التي تكبّدت خسائر فادحة وثّقتها المقاومة بمقاطع فيديو.

الرهان الأمريكي على ردع محور المقاومة وجعله يقف مكتوف الأيدي أمام آلة الحرب الصهيونية، فشل فشلاً ذريعاً، حتى إن إرسال حاملات الطائرات الأمريكية وتوابعها إلى شرق المتوسّط والإيحاء بأن واشنطن مستعدّة للدخول في حرب كبيرة في المنطقة تحوّل إلى وبال على القيادتين السياسية والعسكرية الأمريكيتين، وخاصة بعد افتضاح رسائل التوسّل التي أرسلتها واشنطن إلى المحور في هذا الاتجاه، حيث قال قائد القوة الجو فضائية في حرس الثورة الإيراني العميد علي حاجي زاده: إنّ “الأميركيين أرسلوا رسائل استخدموا فيها لغة التوسّل والرجاء”.

فبعد أكثر من شهر على جرائم الإبادة الصهيونية المستمرّة بحق أطفال غزة ونسائها وشيوخها، لا تزال الجبهة الداخلية للمقاومة في عزة متماسكة وداعمة للمقاومة، بل على العكس تغيّر المناخ الشعبي في المنطقة كلها إلى ضرورة دعم هذه المقاومة عبر كل الجبهات، حيث أعلن اليمن دخوله في الحرب إلى جانب المقاومة الفلسطينية، بينما بادرت المقاومة اللبنانية إلى تخفيف الضغط عن غزة من خلال إشغال جيش الاحتلال على حدود فلسطين المحتلة مع لبنان، وبدأت المقاومة العراقية باستهداف القواعد الأمريكية في سورية والعراق، الأمر الذي أرسل رسائل بالنار إلى الإدارة الأمريكية بأن المحور جاهز لتوسيع رقعة الحرب، ولا يمكن للأساطيل الأمريكية أن تشكّل عامل ردع له في هذا السياق، وقد فهمت واشنطن ذلك جيّداً، فاضطرّت إلى إرسال رسائل واضحة إلى قادة الكيان الصهيوني بضرورة التوقف عن استفزاز الأطراف في المحور، لأنها لا تستطيع أبداً الدفاع عن “إسرائيل” إذا توسّعت رقعة الحرب في المنطقة.

ومن هنا، ذكر موقع “أكسيوس” الأميركي، أنّ وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن نقل رسالة إلى ما يسمّى وزير “الأمن” الإسرائيلي يوآف غالانت، تعكس القلق المتزايد في البيت الأبيض من العمليات الإسرائيلية في لبنان، الأمر الذي قد يؤدّي إلى فتح جبهة أخرى في الحرب، وواشنطن لا تريد الانجرار إلى “عمق الأزمة”، في الوقت الذي استمعت فيه إلى تهديد الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله حول ما أعدّته المقاومة للأساطيل الأمريكية في حال ارتكابها أيّ عدوان، فضلاً عن الخسائر الحقيقية لقوات المارينز الأمريكية المشتركة في الحرب البرية على قطاع غزة المحاصر، وأوستن طبعاً لن يطلب ذلك بمعزل عن رئيس الإدارة الأمريكية جو بايدن.

هذا طبعاً بالإضافة إلى أن كثيراً من المحللين العسكريين الأمريكيين حذّروا من مغبّة الانخراط الأمريكي في أيّ صراع في المنطقة، حيث قال ضابط الاستخبارات الأميركي المتقاعد، سكوت ريتر: إنّ “الولايات المتحدة لا تبحث عن طريق لتصعيد العنف، لأنّها تعرف جيداً أن النتيجة ستكون هزيمة استراتيجية لإسرائيل وللولايات المتحدة، والمزيد من إضعاف موقع الولايات المتحدة في الخارج”.

ولا شك أن حادث العسكريين الأميركيين الخمسة الذين قتلوا بتحطّم مروحيتهم في البحر المتوسط، وغيرهم من القتلى الأميركيين في القواعد الأمريكية في سورية والعراق الذين تتحفّظ واشنطن على الاعتراف بهم، سيشكّل عاملاً رادعاً لها وليس لجبهة المقاومة في المنطقة.

وعلى العموم، حاولت واشنطن القول إنها صاحبة اليد الطولى فيما يجري عبر أساطيلها المنتشرة في المنطقة، ولكن الكلام في الميدان يشي بعكس ذلك، حيث لم يتمكّن الجيش الصهيوني حتى الآن من تحقيق أيّ نصر عسكري على الأرض يتيح لـ”إسرائيل” ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية فرض شروطهما على المنطقة، كما أن تزايد الغضب الشعبي في الدول الغربية من المجازر التي يرتكبها العدو الصهيوني بحق أطفال غزة ونسائها على مرأى ومسمع العالم بغطاء كامل من الحكومات الغربية، بات يهدّد الوضع الداخلي في هذه الدول، حيث إن المزاج الشعبي العام فيها بدأ يتحوّل بشكل كبير إلى جانب القضية الفلسطينية، الأمر الذي فسّرته واشنطن على أنه هزيمة استراتيجية لمشروع تصفية القضية الفلسطينية، حيث ظنّ الجميع أن الفرصة بعد عملية “طوفان الأقصى” أصبحت مواتية لمحو هذه القضية ودفنها نهائياً.

ومن هنا، فإن جميع المحاولات التي تقوم بها الإدارة الأمريكية للتوسّط لدى المحور المقاوم في عدم توسيع رقعة الحرب ستبوء بالفشل، في ظل عجز الكيان عن الإعلان عن وقف إطلاق النار والتقهقر من غزة، لأن ذلك سيمثّل هزيمة مزدوجة للكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة معاً، فضلاً عن الزلزال السياسي والأمني الذي سيضرب الكيان من الداخل بعد عجزه عن تحقيق أهدافه في الميدان، واضطراره إلى القبول بشروط المقاومة الفلسطينية، وهي الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال مقابل الإفراج عن جميع أسرى عملية “طوفان الأقصى” المباركة، وبالتالي فإن حديث الميدان الذي أصرّت عليه واشنطن عبر دعم العدوان الصهيوني على غزة هو مَن سيحدّد إلى أين تذهب الأمور، وليس الأماني الأمريكية، لأن المعركة بشكلها الحالي أصبحت معركة وجود، ولا يمكن لأحد أن يشطب هذه القضية من الوجود.