السوريون يصابون بعدوى الادخار بغير الليرة.. وتخزين “كل شيء” خيار الشطار من المنتجين والتجار
دمشق- علي بلال قاسم
أفرزت ارتدادات الخناق الاقتصادي العام بملفه التجاري نمطاً مختلاً من التعاطي المصلحي جمع بين التّجار والأفراد في بوتقة عمليات الاحتكار وفوبيا التخزين، وانكفاء ذات اليد تجاه المواد والسلع ومخرجات أي عملية إنتاجية، لتكون القيمة السوقية العليا في وقائع هذه الأيام للبضاعة أياً يكن نوعها على حساب عملة وطنية من المفترض أن تكون المعامل والمقياس الأول لأي منتج أو خدمة، إلا أن رصيدها من الهشاشة مازال يأخذ مساراً من الهبوط الحاد، لصالح -ليس العملات الأجنبية الصعبة والذهب فقط– بل ثمّة قناعة لدى أقطاب الصناعة وماسكي أذرع التجارة، ومعهم جموع الفعاليات والشرائح، وصولاً إلى الفرد من فئة صغير الدخل ومحدود الإيراد بأن الادخار في قاموس الاقتصاد السوري ليس كما كان في زمن الرشد “أوراق نقدية أو معادلها من المعادن الثمينة”، بل شراء واقتناء أي شيء في الحياة، ولو كان تراباً وحجارة وهواءً –كما يعلق أحد التّجار في أحد أعتق أسواق دمشق– هذا إذا فكرنا أبعد من الهدف الأقرب والأدسم لأي مالك “لقرشين مناح” وهو الاستحواذ على الدولار “الداشر” والمتاح في جيوب الاقتصاد الرسمي المثقوبة، والمتوفر بكثرة في محافظ وصناديق وشوالات المتحكمين والمهيمنين على وجه الاقتصاد الأسود الأكثر رواجاً وشيوعاً، أمام ضعف حال وقلة حيلة المؤسّسات النقدية والمصرفية التي تحاول جاهدة أن تستعرض شيئاً من القوة عبر نافذة ومنصة سعر صرف الحوالات الرسمية “المكموشة” بسلطة الأمر الواقع.
“تدبير الراس”
لا يخفى على أحد أن عوامل ومسبّبات خارجية وداخلية أوصلت الليرة إلى هذا الحدّ الخطير من الضعف والاعتلال الذي يعتبره الدكتور حسيب حمدان –مهتم ومتابع لصيق- نتيجة حتمية لصفحة حربية يزيد من سعارها إدارة غير كفوءة لمقومات العملية الإنتاجية؟، فالتخبّط الحكومي واضح في أي محاولة إنقاذية أو إسعافية حصلت منذ سنوات إلى الآن، لنصل إلى مرحلة انسحبت فيه الأذرع التنفيذية صاحبة القرار من فعل أي شيء، مقرّة ومعترفة بالضعف وتاركة الساحة ملعباً للجميع –ماعدا المؤسسات التدخلية– وبات كلّ “يقلع شوكه بيده” ويتصرف كيفما يشاء، حيث شطارة “تدبير الراس” باتت قاسماً مشتركاً عند التاجر والصناعي والحرفي والمزارع، وحتى الموظف الذي وجد في فرصة القروض متعدّدة الأجناس التي تعلن عنها المصارف الحكومية ضالته ليسارع بالحصول على ملايين مبتورة الأقدام بفخ الفائدة المتعاظمة ومصيدة التضخم المتغول، وهي بالعموم مجرد سيولة استهلاكية بسيطة لا تسدّ رمقاً توظيفياً أو استثمارياً، ومع ذلك لا مانع من اقتناص الفرصة لتحويل القرض إلى عملة أجنبية ينام عليها باطمئنان ادخاري مقبول في زمن أصبح كلّ من في الجغرافيا السورية “يسوق” كما يريد السوق!.
بذريعة الصيانة
في يوميات التعاطي الجمعي مع حالة السوق الرائجة يسارع الكلّ للاستحواذ على أي منتج ولو ليس بحاجته بدل أي مبلغ أو رصيد، وهنا يرتفع الطلب على أي شيء وتزداد معدلات الأسعار، ويؤكد أحد أصحاب المستودعات الكبرى في دمشق أن كل تاجر كبير أو صغير بات هدفه تجميع أكبر قدر من البضاعة، وبموجب ما وصل إليه السوق أصبح التخزين الشغل الشاغل، بعد أن كان البيع هو الأهم لكلّ منتج أو بائع، هي حالة تسبّبت -وفق التاجر الخبير– بإقبال شديد وطلب ملحاح على الأقبية والمحال المقفلة والمهملة والمتاجر، وحتى الشقق والبيوت، بهدف استئجارها كمخازن ومستودعات تكدس فيها البضائع أياً يكن نوعها، وهذا ما دفع لاستغلال الطلب والحاجة لأماكن شاغرة لرفع بدلات الإيجار ومضاعفة فروق الأسعار، في توقيت تسري النصائح بين أهل السوق بأن اشترِ كل شيء ولا توفر قرشاً خاسراً على الأمد القصير والطويل، ليردف تاجر آخر بأن شعار السوق هذه الأيام بع أقل تربح كثيراً، ليكون الاحتكار والاعتكاف عن البيع مصدراً للربح الفاحش والغنى السريع.
وعبر جولة استطلاعية لا تحتاج لكثير من التدقيق، يبدو السوق متخماً بالسلع والبضائع، وأكداس المواد تغزو المحال والحواري الجانبية والمستورة، في وقت راح الجميع يغلق في وجه البيع المباشر، ويفضّل الكثيرون إقفال محالهم بذريعة الصيانة والإصلاح، لأن الربح من عدم البيع وانتظار السعر الأعلى هو التجارة الأدسم عند الكل الذي بات يفهم اللعبة ويشارك فيها.
لا يلسعون من جحر
على جبهة العاملين والموظفين هناك عدوى أصابت هذه الشريحة التي لا تقوى بحكم مرتباتها الهشّة على التخزين، يميل الجميع كلّ رأس شهر لصرف وإنفاق جلّ معاشه في سوق الحاجيات الأساسية من غذاء ودواء ومستلزمات نظافة مباشرة، في انتهاز واضح لفرصة امتلاك وضمان هذه السلع قبل أن يرتفع سعرها خلال أسبوع، فكيف الشهر؟ ولا ضير من الحصول على سلفة على الراتب تعطي مجالاً لشراء ما يتيسّر من متطلبات المطبخ، ضماناً لقوت الشهر.
أما في بساتين وحقول المزارعين، فالمشهد لا يختلف كثيراً، عبر فلاحين أخذوا قراراً بألا يلسعون من جحر التجار مرات قادمة، وأصبح الكلّ معتكفاً ورافضاً لبيع معظم المحاصيل القابلة للتخزين، فالجميع يعرف أن السماسرة والمتاجرين يلهثون لجمع أكبر قدر من المحاصيل بأسعار مغرية لأجل التخزين وليس البيع “بوجود مجال للتصدير أو عدمه”، وما حصل في تجارب زيت الزيتون أكبر مثال، إذ لم يتوقف “غزاة التجارة” عن سحب كل ما يتيسّر من زيت الفلاحين حتى بعد وقف التصدير، واليوم يصرّ “يوسف الحجة” على صوابية قرار المزارعين بعدم البيع إلا بالحدود الدنيا لتلبية صرفيات الموسم وتكاليف عمال القطاف والنقل والشحن، وما تبقى خزن لدى الفلاحين وأصحاب الحيازات ومن لفّ لفيفهم من عمال وورشات ضمانة وشركاء ومتعهدي جمع وقطاف المواسم، من مبدأ “المزارع أولى بزيته” وعندما يصبح السعر متعاظماً “نبيع”، ولتبقى السيارات الجوالة تردّد صدى “إللي عندو زيت للبيع” دون أن يستجيب أحد لهذا النداء المحتال والرامي للاحتكار الحقيقي وليس التخزين المحق عند المنتج وليس التاجر.