مجلة البعث الأسبوعية

“أبو عرب”.. ذاكرة حية للتراث الغنائي الفلسطيني وايقونة للمقاومة

“البعث الأسبوعية” – لينا عدرا

عند الحديث عن أبرز الشعراء والفنانين الذين غنوا للقضية الفلسطينية، وسخّروا قلمهم وصوتهم من أجل تحفيز الشعب الفلسطيني على مواصلة النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، نجد أن إبراهيم محمد صالح، المعروف فنياً بلقب “أبو عرب”، هو أول من يتبادر إلى الأذهان. كان “أبو عرب” رمزاً من رموز الثورة الفلسطينية، وذاكرة حية للتراث الفلسطيني، من خلال أشعاره وأغانيه التي قدمها على مدى 70 عاماً من عمره. فقد كانت أغلب حفلاته تُقام في مخيمات اللاجئين خارج فلسطين، حيث كبر بعد أن نزح إليها وعائلته بعد النكبة سنة 1948، وقد قال عن نفسه: “أنا شاعر المخيمات الفلسطينية ومطربها”.

 

بين الفن والثورة

وُلد “أبو عرب”، سنة 1913، في قرية الشجرة، التي لم يتجاوز عدد سكانها في ذلك الوقت 750 نسمة، وهي قرية تقع بين مدينتي طبرية والناصرة، في شمال فلسطين.

عشق أبو عرب الشعر والغناء الشعبي الفلسطيني، وكان محاطاً بعائلة فنية جعلته يتشرب كل هذه الفنون على أصولها من الصغر.

فقد كان جده من أمه، وهو الشيخ علي الأحمد، أحد وجهاء قرية الشجرة، كاتب شعر معروفاً، فيما كان عمه شاعراً شعبياً.

شهد أبو عرب انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 ضد الاحتلال البريطاني، وبداية الاستيطان اليهودي في فلسطين.

وقد كتب جده عن هذه الثورة عدة أشعار، كان يتم استخدامها من أجل الإشادة بالثورة، ولتشجيع مجاهديها، من أجل طرد المحتل البريطاني.

 

نقطة التحول

كانت نقطة التحول في حياة إبراهيم محمد صالح، سنة 1948، خلال فترة مقاومة أهل قريته للعصابات الصهيونية التي دخلت من أجل احتلالها، كما الحال مع الكثير من مدن وقرى فلسطين، التي أقبم عليها كيان الاحتلال بعد النكبة.

وبعد سقوط قرية الشجرة بيد الصهاينة، بعد أشهر من المقاومة، اضطر أبو عرب وأسرته للرحيل باتجاه الشمال، إلى قرية كفر كنا، ليكونوا قريبين من والده الذي مكث في المستشفى الإنجليزي في الناصرة بعد إصابته بالرصاص في إحدى معارك الشجرة.

بعد وفاة والده، اضطر إبراهيم للتوجه إلى أحد مخيمات اللاجئين في لبنان، ثم توجه بعد ذلك رفقة عدة عائلات مهجرة إلى سورية، حيث استقر في مدينة حمص، في ما بات يعرف بـ “مخيم العائدين”.

ومن هناك كانت بدايته الحقيقية، حيث كان يثور بقلمه وصوته ضد الاحتلال وسط اللاجئين، من أجل زرع الأمل بالعودة إلى الوطن في قلوبهم، فبدأ بالغناء في الأعراس رفقة جده وعمه، وقدم الأغاني التراثية والثورية، والأغاني التي تعبر عن حنين اللاجئين الدائم إلى فلسطين.

 

نجم الأغاني الثورية الفلسطينية

زادت نجوميته في عام 1954، بعد أن أصبحت له أغان خاصة به مستوحاة من التراث الفلسطيني، لكنه شهد تطوراً كبيراً في مساره الغنائي سنة 1959، عندما تمت استضافته في إذاعة “صوت العرب” في القاهرة، حيث دعاه “ركن فلسطين” في الإذاعة إلى تقديم الأغاني الفلسطينية.

وخلال ثورة 1965، أصبح “أبو عرب”، الذي حمل هذا اللقب الفني بفضل أغانيه الثورية، شاعراً لكل هتافات هذه الثورة، ومطربها الأول.

أصدر في تلك الفترة عدداً من الأغاني المسجلة، والتي قام بتوزيعها أيضا، مسخراً صوته وإمكاناته الفنية كلها لخدمة القضية الوطنية الفلسطينية.

كما قام باستبدال مفردات بعض الأغاني التراثية القديمة، لتتلاءم مع مناخ الثورة، وأعاد غناءها، مثل أغنية “يا ظريف الطول”، وهي من أغاني الأعراس التي تحولت على يده لأنشودة تتغنى بالفدائي الفلسطيني.

وقد أصبحت الأغنية تقول:

“يا ظريف الطول ويا رفيق السلاح

اروي أرضك دم جسمك والجراح

ما بنكل وما بنمل من الكفاح

ما بنموت إلا وقوف بعزنا…”

 

محطات  

بعد الثورة، أصبح أبو عرب مغني مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وبات ينتقل بين لبنان والأردن وسورية، لإحياء حفلات غنائية هناك.

كما أصبح مسؤولاً عن ركن الغناء الشعبي في إذاعة فلسطين، في لبنان، سنة 1978. وهناك أسس فرقته الغنائية الأولى، التي تحمل اسم “فرقة فلسطين للتراث الشعبي”، وذلك سنة 1980، وكانت مكونة من 14 عازفاً، وقد كانت الفرقة الغنائية الوحيدة في الوطن العربي التي تقدم أغاني للمقاتلين.

لكنه في سنة 1982، تعرض وفرقته للحصار في لبنان، مع الاجتياح الإسرائيلي، وبعد أن تقرر خروجهم من البلاد توجّه إلى تونس، فيما عاد وحيداً إلى سورية بعد ذلك.

بعد 5 سنوات من هذا الحدث، جاء أبو عرب خبر حزين آخر، وهو استشهاد أحد أقاربه، وهو فنان الكاريكاتير المعروف ناجي العلي، صاحب الرسمة الشهيرة “حنظلة”، ما جعله يدخل في حالة حزن كبيرة، فقرر تغيير اسم فرقته إلى “فرقة ناجي العلي” تكريماً له.

قدم أبو عرب عدداً كبيراً من الأشعار والأغاني الثورية الفلسطينية خلال مساره الغنائي، الذي وصل إلى 70 سنة، فاق عددها 300 أغنية، و28 شريط كاسيت.

ومن بين أشهر هذه الأغاني: “من سجن عكا”، و”يا موج البحر”، و”هدي يا بحر هدي”، و”أغاني العتابا والمواويل”، و”يا شايلين النعش”.

وتمتاز هذه الأغاني بإدخاله كلمات فلسطينية محلية قديمة. وقال أبو عرب في أحد تصريحاته حول هذا الموضوع :”أشعر أنه يجب على الفلسطيني أن يعرف الفلسطيني الآخر من لهجته ومن كلامه، كي يحن عليه ويتعاون معه ويعطف عليه.. يجب أن تظل قلوبنا على بعض، متآزرين يسند أحدنا الآخر ويعينه”.

ودع قرية الشجرة ثم رحل إلى مثواه الأخير

بعد أكثر من 64 سنة عن رحيله عن أرضه وبلده قسراً بسبب الاحتلال الإسرائيلي، تمكن أبو عرب من معانقة فلسطين من جديد سنة 2012، خلال مشاركته في الملتقى الثقافي التربوي الفلسطيني الخامس والسادس.

فقد تحققت أمنيته بزيارة قريته “الشجرة”، التي وُلد وعاش فيها طفولته، ومنها بدأت تتكون معالم شخصيته، ورسم خطوات حياته.

وبعد سنتين فقط من هذه الزيارة، وبسبب وضعه الصحي، توفي أبو عرب، في سورية، وتم تشييع جثمانه في مخيم العائدين بحمص من مسجد الأمين بعد الصلاة عليه ووري الثرى في مقبرة المخيم.

وبالرغم من رحيله، إلا أن أغاني أبو عرب بقيت صامدة وخالدة أمام الاحتلال، إذ يتم ترديدها في كل مناسبة تستحق الانتفاضة والثورة في وجه العدو.