مجلة البعث الأسبوعية

الكونت فولك برنادوت.. وسيط السلام الأممي الذي اغتاله عصابات الإجرام الصهيونية في فلسطين

“البعث الأسبوعية” – لينا عدرا

في 7 أيلول 1948، اغتيل الدبلوماسي السويدي الكونت فولك برنادوت، واغتيل معه عقيد فرنسي كان جالساً بجانبه في السيارة، وذلك حين هوجم موكبه وأطلقت عليه النار في شارع عام في المنطقة الواقعة تحت السيطرة الصهيونية في القدس. نفذت الهجوم عصابة شيترن الصهيونية المتطرفة التي أصبح زعيمها إسحاق شامير فيما بعد رئيساً لوزراء الكيان الصهيوني.

ولد برنادوت في ستوكهولم، في الثاني من كانون الثاني 1895، وكان ضابطا في الجيش السويدي ورئيسا للحركة الكشفية، وهو أحد أفراد العائلة الملكية السويدية، فجدّه ملك السويد والنرويج أوسكار الثاني. وكان برنادوت ينتمي إلى النخبة الاجتماعية العليا ببلاده، منفتحا وصادقا وبعيدا عن التصنع، ولا يمكن الشك في ازدواجية مواقفه.

ارتبط اسم برنادوت بأحداث عام 1948 في فلسطين، والصراع الذي دار، ولا يزال، بين العرب والمستوطنين اليهود الذين تدفقوا إلى فلسطين في العقود القليلة التي سبقت النكبة، وقد انتهت تلك الأحداث بتهجير الشعب الفلسطيني وإعلان قيام ما يسمى “دولة إسرائيل”.

وفي كتابه “جريمة اغتيال الوسيط الدولي في فلسطين.. الكونت فولك برنادوت” (2022)، يقدم الكاتب السويدي يوران بورين تفاصيل دقيقة ووافية عن الظروف والأحداث التي سبقت حادثة الاغتيال، وما تبعها من تحقيقات وشهادات تلقي الضوء على الكثير مما حدث في فلسطين آنذاك. ويمر سريعاً على بعض محطات الصراع العربي اليهودي، بدءاً بالأب الروحي للصهيونية هرتزل، ونشأة أولى المستوطنات الصهيونية في فلسطين، مروراً بوعد بلفور 1917، وانتهاءً بقرار تقسيم فلسطين 181 لسنة 1947.

 

إلى فلسطين

اندلعت المواجهات في فلسطين فور شيوع خبر توصية الأمم المتحدة بالتقسيم. ولعبت الميليشيات اليهودية دوراً بارزاً للغاية في دفع الفلسطينيين إلى الفرار. وكثيراً ما نسفت القرى وسِوّيت بالأرض، وارتكبت المذابح جماعية، على غرار مجزرة دير ياسين، وأفرغت المدن الكبيرة من سكانها العرب لإفساح المجال أمام إقامة المستوطنات اليهودية وإحلال المهاجرين اليهود في منازل السكان العرب.

قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تعيِّن وسيطاً دولياً لتنفيذ قرار التقسيم رقم 181، و”إحلال السلام في فلسطين”، واتخذت القرار رقم 186 بتاريخ 14 أيار 1948.

وفي اليوم نفسه، أُعلن عن قيام “دولة إسرائيل”. وأدى ذلك على الفور إلى نشوب حرب بين “الدولة اليهودية” المعلنة والعرب.

ساد الخلاف في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والأمر الوحيد الذي أمكن الاتفاق عليه هو تعيين وسيط دولي للبحث في “وقف العنف”. وأنيطت بمجلس الأمن مهمة إيجاد الشخص المناسب لهذا الغرض. وفي 21 أيار، عٌين برنادوت بإجماع الأصوات وسيطاً بالرتبة والتسهيلات نفسها الممنوحة لرئيس محكمة العدل الدولية.

عقد برنادوت مؤتمراً صحفياً وشرح موقفه بالقول: “لقد توليت المهمة لأنني أنظر إلى مشكلة فلسطين، ليس كقضية داخلية بين اليهود والعرب، بل كشرارة يمكن أن تشعل حريقاً كبيراً، وإذا كانت لدي فرصة بنسبة واحد بالمائة للنجاح، فأنا أعتقد أن المحاولة يجب أن تُبذل”. و”طلب أن يوضع بعض الخبراء تحت تصرفه، وأبدى استعداده للعمل لمدة ستة أشهر”.

في 29 أيار، أصدر مجلس الأمن قراراً ، حمل صيغة الطلب وليس الأمر، بوقف العمليات العسكرية والدخول في هدنة لمدة أربعة أسابيع، وكانت مهمة الوسيط هي حثّ الأطراف على الالتزام بذلك.

 

الهدنة الأولى

نجح برنادوت، يوم 9 حزيران، بإقناع جميع الأطراف بالموافقة على الهدنة الأولى، وبذلك أنجز الخطوة الأولى من “مهمته المستحيلة”. وبقي الأمر الأشد صعوبة، وهو إنجاز “ترتيب سلمي لمستقبل فلسطين”.

ساعدت الهدنة القوات الصهيونية على استيراد كميات هائلة من الأسلحة والعتاد الحربي من تشيكوسلوفاكيا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي أثرت تأثيراً مباشراً في المراحل اللاحقة على حرب عام 1948 لصالح العصابات الصهيونية.

قاد برنادوت جولة من المفاوضات لتطبيق القرار 181، انتهت بتقديمه وفريق عمله اقتراحاً، في 27 حزيران، “سُمّي خطة السلام الأولى، حيث جرى التأكيد، في المقدمة، على أن هذا الاقتراح مجرد أساس لمزيد من المفاوضات وليس مواقف نهائية على الإطلاق. وبحسب الخطة، ستندمج دولتان، واحدة يهودية وأخرى عربية، في اتحاد سيكون الغرض منه اقتصادياً في المقام الأول. ورأى برنادوت أن خريطة حدود الدولتين بموجب قرار التقسيم بحاجة إلى إعادة رسم. وهكذا، اقترح أن تذهب صحراء النقب إلى الدولة العربية، بينما يجب أن يكون الجليل الغربي جزءاً من الدولة اليهودية. ثم كان الاقتراح “القاتل”: ستكون مدينة القدس بأكملها جزءاً من الآراضي العربية، وتحت السيادة العربية، مع حكم ذاتي للسكان اليهود، وسوف يعود اللاجئون الفلسطينيون الذين فروا من القتال بسبب الظروف المترتبة على النزاع القائم، أو طردتهم القوات اليهودية إلى بيوتهم، ويستعيدون ممتلكاتهم.

رفض زعماء الحركة الصهيونية مقترحات برنادوت لأنها تعطي مدينة القدس ومنطقة النقب للدولة العربية الفلسطينية، وتنص على إنشاء ميناء حر في حيفا ومطار جوي حر في اللد (والمعروف حالياً بمطار تل أبيب)، وتقترح إقامة اتحاد بين فلسطين وشرق الأردن.

وبالمقابل أعلنت بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية تأييدها للمقترحات في حين عارضها الاتحاد السوفييتي.

حاول برنادوت تمديد الهدنة مع انتهاء مدتها، في 9 تموز، لكن العرب رفضوا، واتخذ مجلس الأمن “بأغلبية كبيرة قراراً أمر بوقف إطلاق النار من دون حد زمني”.

 

سورية ولبنان

في أيلول 1948، قام برناوت بجولة شملت كلاً من سورية ولبنان، حيث تعيش أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين ظروفا مأساوية وتقيم في الخيام والعراء، وقد سلب منها كل شيء باستثناء ملابسها التي ترتديها.

وأبدى برنادوت اهتماما بالغا بوضع هؤلاء اللاجئين، وكان قد عزم على طلب مساعدات دولية من أجلهم، والكفاح بقوة من أجل قضيتهم، وهو ما أدركته الحكومة الإسرائيلية سريعاً. ولربما كان اهتمامه بقضية اللاجئين سبباً إضافياً دفع هذه الحكومة إلى أن تترك المجال مفتوحا أمام القتلة من عصابة شتيرن.. وهكذا، بعد التخلص من برنادوت، يختفي اللاجئون وقضيتهم.

في كتابه “إلى القدس”، يقول برنادوت: تعرفت في حياتي على الكثير من معسكرات اللاجئين، لكني لم أر أبداً مشهداً أفظع مما شاهدته هنا”، وطالب بعودة اللاجئين إلى ديارهم واستعادة أرضهم وممتلكاتهم وتعويضهم عن الخسائر والأضرار التي لحقت بهم.

 

خطة السلام الثانية

في 16 أيلول، قبل يوم واحد فقط من اغتباله، وقع برنادوت صيغة معدّله لمقترحاته على ضوء ما تلقاه من ردود وملاحظات، وما لاحظه من انطباعات ومشاهدات عند زيارته لفلسطين، عرفت باسم “مشروع برنادوت” بعث بها إلى الأمين العام للأمم المتحدة.

 

في القدس

وفي 17 أيلول، توجه برنادوت من بيروت إلى قلندية في القدس، في رحلة كانت مخصصة أساساً لنقل المراقبين الوليين، وهم طواقم الأمم المتحدة غير المسلحين والمكلفون مراقبة وقف إطلاق النار الذي كان سارياً في ذلك الوقت.

وقد اعتقد برنادوت أنه من أجل زيادة تأثير جهوده الخاصّة من جهة، ومن أجل تقديم مثال جيّد من جهة أخرى، لا ينبغي له أن يتردّد في الذهاب بنفسه إلى الجبهات ومناطق المواجهات المكشوفة؛ حيث يجب أن يتواجد المراقبون ومساعدوهم، وبالتالي عليه أن يرفض التمتّع بالحماية التي يستطيع المراقبون التمتّع بها. بالإضافة إلى ذلك، أراد برنادوت البحث في إمكانية نقل مقر عمله من جزيرة رودس إلى القدس، وبالتحديد إلى “مقرّ الحكومة” البريطانية المهجور.

ما إن وصلت الطائرة أجواء القدس حتى تلقى عامل اللا سلكي بالطائرة إشارة لا سلكية سلمها للكونت برنادوت وصلت إليه من مكتبه في حيفا تحذره من الهبوط في مطار القدس، حيث لديهم معلومات أن محاولة ستتم لحرق طائرته ومهاجمته لدى هبوطها. وطلب منه تغيير مكان الهبوط لكنه لم يقبل بنصيحة مكتبه وهبط في مطار القدس.

 

توجه برنادوت من مطار القدس إلى مدينة رام الله، برفقة الجنرال السويدي أوجيه لوندستروم رئيس أركان قوة المراقبين الدوليين، واجتمعا هناك مع قائد القوات الأردنية البريطاني العميد نورمان لاش الذي كان قائد القوات العربية في القدس.

وقد اقترح لوندستروم، وكان جنرالاً حذراً، أن يطلب الوفد من لاش دورية حماية على الطريق من رام الله إلى خط الفصل، وقد أيّد اقتراحه أحد المراقبين. وذلك لأن البرقية التي تلقاها الوفد خلال الرحلة الجوية قد خلقت إحساساً بالخطر. لكن برنادوت لم يشأ أن يسمع شيئاً عن ذلك. وقد قال بالسويدية إن لديه الحقّ كمبعوث للأمم المتحدة بأن يتواجد، غير مسلّح ومن دون حماية، حيث يشاء في فلسطين.

وصل برنادوت إلى القدس بحراسة أردنية، وعندما وصل القطاع المحتل من القدس العربية عادت الحراسة الأردنية، وتسلمت حراسته مجموعة إسرائيلية، ورافقه ضابط الاتصال الإسرائيلي الكابتن هيلمان.

توجه برنادوت رأساً إلى الكلية العربية في القدس التي احتلتها “إسرائيل” خلال فترة الهدنة، وطلب من الإسرائيليين مغادرتها وقدم لهم احتجاجاً على احتلالها.

 

الاغتيال

كانت قافلة الكونت برنادوت وهي تسير في القدس الغربية التي احتلتها “إسرائيل” مؤلفة من ثلاث سيارات، وتحمل على مقدمتها علم الأمم المتحدة. وكان الكابتن هيلمان يجلس في السيارة الأولى وبرنادوت في السيارة الثالثة، وجلس بجانبه الكولونيل الفرنسي سيرو، رئيس المراقبين الدوليين في القدس.

مرت القافلة عبر نقطتين إسرائيليتين للتفتيش داخل القدس الغربية المحتلة ولم تتوقف، لأن ضابط الارتباط الإسرائيلي هيلمان كان يطل برأسه من السيارة الأولى ليتعرف الحرس الإسرائيلي عليه، ومرت القافلة بدون توقف أو تفتيش.

وعندما كانت القافلة تسير في طريقها فوجئ الموكب بسيارة جيب إسرائيلية تقف في عرض الطريق.

وتحدث ضابط الارتباط الإسرائيلي هيلمان مع شخصين بجوار سيارة الجيب وأخبرهما بأنها قافلة الوسيط الدولي برنادوت. تقدم شخصان آخران وطلبا هويات الركاب في القافلة، وعندما عرفا شخصية الكونت برنادوت أطلقا عليه الرصاص من رشاشاتهم في صدره فمات على الفور، وأصيب الكولونيل الفرنسي سيرو بجراح خطيرة توفي على أثرها.

وحاول قائد المراقبين الدوليين الكولونيل بيغلي القبض على أحد القتلة فأطلقوا النار عليه وأصيب بجراح بالغة. وهكذا انتهت مقترحات برنادوت بمقتله.

كان القتلة من عصابة شتيرن التي كان يرأسها السفاح اسحق شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي فيما بعد، وهم ناتان فريدمان يلين ويهوشع زيتلر وإسرائيل شهيب واسحق عايزرنتسكي وجوشوكوهين. وستيلي غولدفوت.

 

القتلة إلى الكنيست

سادت موجة ألم وغضب واستنكار شديد في أوساط الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ولكن بن غوريون، كعادة الصهاينة في التضليل والكذب، أعلن أن “العملية الإجرامية التي قامت بها عصابة شتيرن المتمردة والخارجة عن القيادة الإسرائيلية لاقت أشد الألم والاستنكار لدى الحكومة وأنها ستعاقب القتلة”. وألقت الحكومة الإسرائيلية القبض على حوالي خمسين يهودياً منهم ناتان فريدمان يلين، قائد المجموعة التي نفذت جريمة لاغتيال.

وأعلن بن غوريون أن المحكمة الإسرائيلية حكمت على القتلة بالسجن المؤبد لأن عقوبة الإعداد غير واردة في قانون “دولة إسرائيل” وسيقضي هؤلاء المجرمون حياتهم بين قضبان الزنازين.

وأمضى الإرهابيون اليهود عدة أشهر في السجن قبل أن يصدر بن غوريون قراراً بالعفو عنهم. وكافأهم “الشعب” الإسرائيلي بانتخاب قائد المجموعة الإرهابية ناتان فريدمان كعضو في الكنيست في أول انتخابات إسرائيلية جرت عام 1949.

في عام 1970، نشر العضو السابق في منظمة ليحي باروخ نادل كتاباً عن جريمة الاغتيال، أشار فيه إلى “المسؤولين الثلاثة في ليحي الذين اعطوا الأوامر بارتكاب الجريمة؛ وهم إسحاق يزيرنيتسكي (شامير لاحقاً) وناثان فريدمان يلين وإسرائيل إلداد”.

وفي عام 1988، أصبح معروفاً على نطاق أوسع من الذي قتل برنادوت، ففي يوم الأحد 11 أيلول من ذلك العام، نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية تحقيقاً مثيراً للصحفي الإسرائيلي روني شاكي، ظهر فيه بعض الجناة وهم يتحدثون علناً عما حدث، بعد مرور 40 عاماً على الجريمة، أي سقوط عقوبتها بمرور الزمن. ولكن الشيء الأكثر إثارة للانتباه في التقرير هو الشخص الذي ذُكر علناً، كواحد من الذين اصدروا الأوامر بارتكاب الجريمة، هو شامير، الذي كان رئيساً للوزراء حين نشر التحقيق.

 

التاريخ يكرر نفسه

كان موقع الهجوم على موكب برنادوت يبعد مائتي متر فقط من مقر منظمة شتيرون. واعتقد القنصل البلجيكي العام جان نيوينهويس، وهو رئيس للجنة مراقبة الهدنة التابعة للأمم المتحدة، “أن برنادوت أِزيح من الطريق لأنه عقبة أمام تحقيق واحدة من أثمن خطط اليهود، وهي تحويل القدس إلى مدينة يهودية بالكامل وجعلها عاصمة لإسرائيل (…) كان مقتنعاً بأن القادة كانوا على علم بأن محاولة اغتيال قد خُطط لها”..

هكذا يكرر التاريخ نفسه، إذ لا تزال إسرائيل تستخدم القوة والاحتلال وعمليات الاغتيال ومصادرة الأراضي الفلسطينية وتهويدها وجلب قطعان المستوطنين اليهود من جميع أنحاء العالم لإقامة “دولة إسرائيل”، وهكذا أيضاً لا تزال الحقائق تضيع ويتم تزويرها طالما أن المسألة تتعلق بـ “إسرائيل”.