الاحتلال جاء صاغراً إلى الهدنة
طلال ياسر الزعبي
يحاول قادة الاحتلال الصهيوني الإيحاء بأنهم وافقوا على قرار الهدنة استجابة لـ “الضغط” الذي شكّله أهالي الأسرى، وهذا الحديث طبعاً حديث مستجدّ على خلفية الموافقة المذلّة على الهدنة التي كان رفضها مراراً رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بحجة أنه يستطيع تنفيذ الأهداف التي أطلقها عند بدئه العدوان على غزة على خلفية عملية “طوفان الأقصى” البطولية التي جاءت ردّاً على جرائم الاحتلال ومجازره وسلسلة غير منتهية من اعتداءاته على حقوق الشعب الفلسطيني.
وإذا كان مقياس الانتصار في أيّ حرب هو تحقيق الأهداف المعلنة لها، فإن السقف العالي الذي طرحه رئيس حكومة الاحتلال بسحق المقاومة وفرض الاستسلام عليها وتهجير سكان غزة إلى مصر وإعادة القطاع إلى السيطرة المباشرة من الكيان – وكلّها أهداف لم تتحقّق – جعل الحكومة الصهيونية بعد وصولها إلى طريق مسدود في الميدان تبحث عن السبل والوسائل الكفيلة بإنزالها من الشجرة، فكانت واشنطن، كالعادة، الوسيط للصهاينة في تأمين مثل هذا النزول الآمن، إن صحّ التعبير.
فجميع أحاديث الميدان تؤكّد أن جيش الاحتلال لم يتمكّن إلى الآن من الانتصار على المقاومة، ولم يستطع إثبات أيّ فرضية من الفرضيات التي طرحها حول عمل المقاومة بين السكان المدنيين، بل لم يتمكّن من القبض على أيّ من المقاومين الذين واجهوا قواته من مسافة صفر، وحقّقوا إصاباتٍ مؤكّدة في جنوده، وبعض التقارير تحدّثت عن المئات من القتلى بين جنوده على خلفية العملية البرية المزعومة التي حاول القيام بها في غزة، ولكنه لم يتمكّن من تثبيت وجوده في كيلومتر واحد من الأراضي التي توغل فيها، هذا فضلاً عن القتلى الأمريكيين الذين شاركوا في توجيه “حرب العصابات”، وقد تحدّثت تقارير شبه مؤكّدة عنهم، وعن الصدمة التي أحدثها فقدانهم في الميدان، حتى إن البنتاغون تفنّن في إخراج عدد من قتلاه على أنهم قتلوا في تدريبات بحرية في المتوسط.
وأيّاً يكن من أمر هذه الهدنة، فإن الكيان الصهيوني، ومن خلفه الولايات المتحدة الأمريكية، اضطرّا في النهاية إلى القبول بالشروط التي أعلنتها المقاومة، ومسألة تبادل الأسرى ستتم حكماً على الوجه الذي اشترطته المقاومة، التي تبحث أصلاً عن تخفيف الضغط عن سكان القطاع وتقليل الخسائر في صفوفهم، وهذا بالضبط ما جعلها توافق على الهدنة، أما الميدان فقد كان حافلاً بالانتصارات المذهلة على جيش الاحتلال ولم يكن عبئاً على المقاومة بالمطلق.
وأما القول إن حكومة الاحتلال وافقت على الهدنة تحت “ضغط جماهيري” كما ادّعت، فإنه محض كذب وتضليل، لأن هذه الحكومة لو أهمّتها بالفعل حياة الأسرى الصهاينة لما هربت إلى الأمام منذ البداية معلنة الحرب ورافعة سقف المطالب، فهؤلاء الأسرى ينتمون بالنسبة إليها أصلاً إلى “الجنوب المهمّش” الذي لا يمتلك ثقلاً مادياً كما هو الحال في “الشمال”، وبالتالي كان ضغط حزب الله على الشمال الذي يشكّل رافعة الاقتصاد الصهيوني أكثر وجعاً.
وعلى كل الأحوال، لا يستطيع أيٌّ من المتنطّعين التحدّث باسم مقاومي غزة الذين هم أصحاب الأرض، وبالتالي فإن قرار الهدنة اتخذته المقاومة بناء على معطيات الداخل، ولأسباب إنسانية، أما الاحتلال فقد وافق مُكرهاً على ذلك، وليس هناك ما هو أوضح من القول: إن الأهداف التي أعلنتها حكومة الاحتلال كلّها سقطت في الميدان، والميدان هو الذي فرض عليها قبول الهدنة، لأنها لم تتمكّن من فرض الاستسلام على المقاومة، كما أنها لم تتمكّن من استعادة الأسرى دون تبادل، وهذا ما أعلنت عنه المقاومة منذ البداية.