الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

من ولد أعمى..!

بلى، من حقّ كلّ من تابع أخبار الثمانية والأربعين يوماً الماضيات، في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، أن يشطر نفسه نصفين، شطر يعتصره الألم والحزن والدمع وهو يرى ما يراه من ظلم ووحشية وعربدة إسرائيلية هي الجنون والهستيريا والعماء في وقت واحد، وقد طال الموتُ الصغيرَ والكبيرَ من البشر، وطال الفناءُ والتدميرُ والخرابُ كلّ عمران ظاهر وجلي فوق الأرض، وطال الفقدُ كلّ ما هو حميم ودافئ وروحاني؛ والشطر الثاني، هو شطر يعلوه الافتخار والاعتزاز تجاه هؤلاء الذين تدقّ قلوبهم لمعاني الوطنية والحرية والقيم السّامية من البطولة إلى الكرامة، ومن الفداء إلى العمران، هؤلاء الذين تقفّوا سيرورة حبات القمح التي تغوّر  في الأرض عميقاً من أجل السنابل الذهبية والمواسم المحلومة!

الآن، وبسبب الشجاعة النادرة، والفقد الموجع، يقف كلّ من امتلك الحواس السليمة على حافة البكاء، وهو يرى كيف صارت صورة القرى، والبلدات، والمدن، والمخيّمات، والبيوت، والمعابد، والمدارس، والجامعات، والمنشآت، والمؤسسات والمشافي، والشوارع، والدروب، والمزارع، والحقول، والمعاصر، والمطاحن، والأسواق، والشواطئ، والغابات والبيارات، خراباً لا تقترفه إلا ذهنية مريضة، ويد سوداء، وروح كارهة، وعماء أبدي العتمة، وحقد بغيض لا تعرفه الوحوش في البراري.

أجل، ما يراه أيّ عاقل، صاحب حسّ سليم، طوال الأيام الفائتة، في غزة والضفة الفلسطينية، إلا ويصرخ: يا إلهي، أيّ  فعل جهنمي يقترفه الإسرائيليون بحقّ الفلسطينيين أصحاب الأرض، وأهل التاريخ، وعشاق العمران والحرية والمجد الذين يولدون ويعيشون من أجل أن يغنّوا: موطني، موطني، وأيّ خيال مريض يتفتّق لاقتراف أبشع صور القتل والإجرام والسحق والتدمير والأذى طال الأطفال الخدج وهم في حواضنهم، مثلما طال النساء الحوامل وهن على أسرة الولادة، وكذلك طال مرضى السرطان، والكلى، ناهيك عن أنه طال دور العبادة، ودور السكن، والمدارس، والأسواق العامة، والمشافي.

الآن، الحسّ السليم، والعقل المعافى، كلاهما يقفان عاجزين عن التعبير، وقد غدا كلّ شيء في قطاع غزة والضفة الفلسطينية حديثاً عن المقابر الجديدة: المقابر في البيوت بعدما خرّت السقوف، وتهاوت الجدران على أهلها في الليل والنهار قصفاً بالمدافع، ورمياً لقنابل الطائرات وصواريخها، وهرساً بجنازير الدبابات، والمقابر في الساحات والشوارع والمدارس بعدما صارت أهدافاً للحقد الإسرائيلي، ثم المقابر في المشافي التي قطعت عنها الكهرباء والأدوية، وغاب عنها الطعام والشراب، والمقابر في سيارات الإسعاف التي لاحقتها  الطائرات، والمقابر فوق عربات الجر،وقد اختلط دم الخيول بدم البشر!

أبداً، لم يحدث ما حدث في قطاع غزة، والضفة الفلسطينية، في أيّ حرب من حروب الدنيا، ولم يحدث في أيّ هيجان من هياج جنون القوة والتوحش والبطش، ما حدث ويحدث الآن فوق الأراضي الفلسطينية، لا يحدث في الغابات، ولا تقوم به الوحوش المفترسة، لأنه فعل شيطاني لذهن شيطاني، تحرسه قوة عالمية ثقافتها شيطانية، وسلوكها شيطاني، فعل لا علاقة له بالعقل أبداً، لأنه لغى الأعراف والتقاليد والقوانين وتجاوزها، ونحّى كلّ مدونة الحقوق، ومحا كلّ ما تعارفت عليه  البشرية من قيم وأخلاق وسلوكيات حميدة، ولا غرابة لهذا الفعل الإسرائيلي المتوحش الحاقد المريض، لأنّ الإسرائيليين يدرسونه فكراً وممارسة في مدارسهم الدينية والرسمية من أجل تخليق جديد لملوك الدم الجدد تقفياً لأجدادهم الذين يفاخرون بهم ويمجدونهم، أولئك الذين دمروا مدينة أريحا، أقدم مدينة عرفت الكتابة والقراءة وأسرار العلوم في العالم، حين دمروها، وحرقوا بيوتها، وقتلوا سكانها، وحيواناتها، وجعلوا الدماء أنهاراً تجري هنا وهنا؛ نعم، لا غرابة يشعر بها الإسرائيليون الذين يقتلون ويدمرون الحياة في بلادنا الفلسطينية، لأنّ 20% منهم يدرسون طرائق القتل والتدمير في مدارسهم، ولأنّ هؤلاء الـ 20% سيصبحون ملوك الدم الجدد، أمثال بن غفير وسيموترتش ونتنياهو وغالانت.

الغرابة جلية تجاه  المشاهد الأليمة البادية في بلادنا الفلسطينية، والواضحة على شاشات التلفزيون، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وقد جهر بها  أصحابُ الضمائر الحيّة:  لا للإبادة الجماعية، لا للتطهير العرقي، لا للنازية الجديدة، لا للظلم، لا للقهر، والحرية لفلسطين.. ورغم علو الصوت..لا يسمع من سدّ أذنيه بالحقد، وغطى عينيه بالعماء، وطوى عقله بالتجاهل واللامبالاة!

أما اللاغرابة، فهي جلية في هذا النشور الفلسطيني  الشّارق بالارادة ، رغم الموت والقهر والحقد، وهي جلية في هذا الصبر الفلسطيني الذي لا تحدّه حدود، وفي هذه المواجهة الفلسطينية الفذّة التي لا تدافع عن فلسطين وحدها، وإنما تدافع عن روح القيم الإنسانية كلّها، وهي جلية في هذا الإيمان المطلق اليقيني بالحرية، فالفلسطينيون اليوم وبدمهم، لا يحررون أنفسهم فقط، وإنما يحررون العالم كلّه من رجس القوة التي لا تعرف معنى من معاني الإنسانية، وها هي مرايا القوة التي عرفها البشر، يبديها التاريخ، بكلّ مراحله، وقد صارت نفايات وقاذورات ومخازي شائهة، ومحطات للخجل العميم، بلى، من ولد أعمى، سيظلّ أعمى حتى لو صارت غابات الدنيا كلّها.. عصياً له!

حسن حميد 

Hasanhamid55@yahoo.com