الكتاب الورقي بالكيلو.. وفي زمن القراءة الإلكترونية “البرد قاتل ودفا الثقافة عفا”
دمشق- علي بلال قاسم
تتداخل وتتشعب المسبّبات المعنوية والمادية التي أوصلت الكتاب بنسخته الورقية “كفعل ثقافي ومنتج علمي” له تاريخ ورصيد فكري موزون إلى ذاك الدرك الخطير الذي جرّد هذا الإنجاز الحضاري البشري من قيمته العليا، لتنمط التحولات الكبرى التي لحقت أشكال وأجناس وطقوس القراءة والمثاقفة الإلكترونية العصرية، هذا الـ”خير جليس” في خانة “الهم” على قلب مالكي المكتبات الفردية والمنزلية، ومعهم شريحة الورثة ولهاثهم وراء التخلص من هذا العبء تحت أي بند “بيع– إهداء– هبة– منح”، في وقت أصبح من الدارج أن يضطر الكثير من مدمني الكتب -كتّاباً وروائيين وقاصين وشعراء وأدباء وصحفيين-، بشكلها التقليدي على البيع لأسباب مادية معيشية بحتة، أو الحرق أملاً بدفء جسدي يقي البرد، وفي أحوال أخرى إهدائها لمكتبة الأسد وغيرها، ولاسيما أننا أمام فئة من “البنى الفوقية” لطالما وصمت بفقر الحال وقلة الحيلة، فالكل يعرف أن مثقفينا الحقيقيين من طراز “المعترين” ومحدودي الدخل، وجلّهم يسترزقون من أفكارهم ومعلوماتهم التي لا تغني ولا تسمن من جوع وهي عاجزة عن تأمين “تسكيتة” فاتورة اليوميات وأجرة السكن.
لا تطعم خبزاً
في رحلة البحث عن نماذج معينة لشخصيات وأسماء وطنية مشهورة أقدمت على بيع مكتباتها، لا نحتاج لكثير من الدلائل والإثباتات، فالقصص عديدة، ولكن ثمة حرصاً عند “أبو هيثم” تاجر كتب مستعملة لعدم ذكرها احتراماً لقدرها وقيمتها وسمعتها الثقافية، حتى لا تُفهم المسألة من بوابة الشفقة والتسول أو الإساءة غير المتعمدة لحكومة أو وزارة ثقافة أو نقابة لا تعير مثقفيها وأدباءها وكتّابها الكبار والمتوسطين والهواة أي اهتمام ورعاية، ففي مسيرته –كما يقول لـ”البعث”– تجارب لا تحصى لمن باع كتبه “على عينه” ولم ينتظر أولاده ليقدموا على هذه الخطوة، وجلهم يهمسون “بدنا نعيش” –الكتب لا تطعم خبزاً-، في توقيت يأتيك مثقف محترم بجسارة لبوسه “متبجحاً” بأن الزمن للقراءة اللا ورقية، وبالتالي لا حاجة لرفوف الورق الثقيل وأكداس المجلدات والمجلات والدوريات بوجود الشاشة الصغيرة في اليد، التي تقدم لك ميزة القراءة السهلة والمرنة لأي إصدار أو منشور دون بحث ميداني، إذ يقدّم لك السيد”غوغل” وجملة محركات البحث ومنصات التواصل الاجتماعي خدمة إيصال وتقديم الكتاب لك في بيتك أو عملك وأنت تحتسي قهوتك وشايك بالمجان ودون عناء؟
عجز الشراء
ولأن هناك حسبة اقتصادية لها مواجعها هذه الأيام لا يخفي “معتصم محمود” صاحب دار نشر حقيقة التكاليف الباهظة لطباعة الكتب على حساب المؤلف نفسه أو بتكفل جهة أو مؤسسة أهلية، ونتيجة ارتفاع سعر الورق وتكاليف الطباعة، وضعف الإقبال على النشر، توقفت دور ومطابع كثيرة عن عملها بعد إفلاسها لتبيع كتبها ومحتوياتها، بأسعار زهيدة لتجار الورق وباعة الكتب المستعملة، كما تحولت الكثير من المكتبات إلى محال تجارية ومطاعم نتيجة تراجع حركة بيعها للكتب وعجزها عن شراء الكتاب الجديد، حيث حلَّق سعره بشكلٍ خيالي، مما اضطر مكتبات عديدة في دمشق لبيع الهدايا والألعاب والقرطاسية وغيرها لتقاوم الإفلاس وتتمكن من الاستمرار.
من جهته يرى العم أبو طلال “الشهير ببيع الكتب المستعملة تحت جسر الرئيس” أن الكتاب يفقد دوره الثقافي والتنويري إذا عومل كسلعةٍ يُجنى من ورائها المال، مؤكداً أن عدد بائعي الكتب المستعملة يتناقص يوماً بعد يوم، ومن بقي يزاولها هم بعض المخلصين للكتاب والساعين نحو الربح المعنوي والفكري قبل المادي، ليفيد مواطنه أبو سعيد الذي يبسط في منطقة الحلبوني أن مصدر الحصول على الكتب المستعملة، العديد من الأشخاص الذين يقومون ببيع مكتباتهم، عندما يحتاجون للمال، أو بداعي السفر، الذي انتشر مؤخراً، أو من خلال الانتقال من بيت إلى بيت، أو محاولة بعض الناس تجديد مكتباتهم، حيث يتمّ التعامل مع جميع مجالات الكتابة، في الدين والآداب والفكر والدوريات والمجلات والدراسات وغيرها، إما بحسب العنوان وقيمة الكتاب وصاحبه ومضمونه أو قدمه وأصالته، أو أحياناً نوع وخط الإهداء المقدم من قبل الكاتب والمؤلف وتوقيعه، بل هناك معيار نتأسف على اتباعه وهو الوزن والشراء بالكيلو الذي يتراوح بين الخمسمئة والألف وأحياناً والألف وخمسمائة ليرة بأحسن الأحوال.
وحول المبيعات والإقبال يعود “أبو طلال” للقول بأنها انخفضت بأكثر من الثلثين، مقارنة بالفترة ما قبل الأزمة، على الرغم من أن أسعار الكتب في السوق زهيدة جداً، مقارنة بأسعار الكتب الجديدة في المكتبات، والتي يقلّ أحياناً سعرها بأدنى من ضعفين أو ثلاثة، مشيراً إلى أن سوء الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن الحرب، أثرت بشكل كبير في حركة البيع والشراء، حيث يسعى المواطن حالياً لتأمين معيشته.
بتراب المصاري
بكل الأحوال يمكن الجزم بأن التطرق لمصير الكتاب الورقي بات موجعاً لدرجة لم تخفِ إحدى الناشطات في الحقل الأدبي والثقافي والصحفي دموعها وأسفها الشديد على مكتبتها التي جمعتها عبر أكثر من 30 عاماً، وهي تبحث عمن يشتريها بسبب نقل المسكن وغلاء الشحن والنقل، لتهدأ روحها لفرصة وهي تستمع لتجربة صديقتها الدكتورة الجامعية التي أرشدتها للتاجر وأنها هي كانت قبلها “زبونة” باعت كنوزها العتيقة والغالية الثمن “بتراب المصاري” 500 ليرة للكيلو غرام، وهذا حال الكل “لا تزعلي حبيبتي”… هكذا واستها الأستاذة الجامعية التي تعمّدت تغيبها عن البيت لحظة استلام صناديق وشوالات الكتب ذات التواقيع والإهداءات المكتوبة بخط يد المؤلفين الكبار أنفسهم.
أكثر حرقة
وفي مشهد آخر “أكثر حرقة” عند معشر المثقفين، يمكننا تقديم أنفسنا “كشهود عيان” على تشييع من نوع آخر عندما حللنا ضيوفاً على أحد الأصدقاء المحسوبين على مدمني القراءة واقتناء أمهات الكتب في قلب الشتاء الماضي، لنفاجأ بالدفء الذي يسكن منزله، متهمين إياه باكتناز وامتلاك المحروقات، وهنا كانت الصورة الصادمة بوجود صندوق كتب يضمّ مزيجاً من الروايات والقصص ومجموعات الشعر وكتب الثقافة التاريخية والجغرافية والسياحية والمطبوعات السياسية والطبية وغيرها مركونة أمام المدفأة، وكلما خمدت نار كتاب قذف بآخر، ولسان الحال يقول: “البرد قاتل ودفا الثقافة عفا”!.