مجلة البعث الأسبوعية

ظاهرة باربينهايمر.. ماذا بعد فالنتاين وهالووين وكذبة نيسان وغيرها من تدفقات الغرب؟

سليمة كلثوم

ناقوس خطر التقليد الأعمى يقرع من جديد معلناً عن ظاهرة إنتشار اللون الوردي في كل مكان. الأمر غير تافه، وليس مجرد انترتيمنت لطيف، لأن فحوى الموضوع أكبر وأعمق مما يبدو، لسيل يتدفق في جذور ثقافة واقتصاد وسياسة ودين وغيرها، متخفياً بقناع يوحي بتنافس فيلمين في دور السينما بحملة ترويجية غير مسبوقة وبتكلفة أكبر من تكلفة إنتاجهما..

موجة من ظلال اللون الوردي اجتاحت العالم من خلال ابتكار حملات دعائية وتصاميم ومجموعات مميزة أطلقتها العلامات التجارية العالمية المستوحاة من نمط حياة دمية باربي.. الوضع خرج عن الطبيعي، وفي كل مكان نشاهد ترويجا لفيلم باربي، سواءً بالملابس أو الحفلات، وحتى في المطاعم: وجبات ومشروبات وردية، وإقبال للمتسوقين على شراء كل ما يخص باربي، وتجار التجزئة يسعون لتحقيق مكاسب من حالة الهوس الوردي هذه..

21 تموز 2023.. العرض الأول لفيلم باربي، تزامناً مع فيلم أوبنهايمر.. إقبال تاريخي مبهر على دور السينما في العالم، إيرادات قياسية هي الأعلى، رغم التباين والإختلاف بين الفيلمين حيث يجمعهما تاريخ عرضهما فقط، لكن الحملة الترويجية غير المسبوقة للفليمين ربطت بينهما معلنة عن تفشي ظاهرة الباربينهايمر في كل أنحاء العالم.

تدور أحداث فيلم أوبنهايمر حول السيرة الذاتية غير الخطية لحياة وأوقات العالم الأمريكي روبرت أوبنهايمر ودوره في تطوير القنبلة النووية، ووسط إتهامات وانتقاضات للكاتب والمخرج بمحاولتهما إثارة التعاطف بشكل لا إرادي مع البطل الذي صور كبطل مأساوي يعيش صراعاً داخليا مليئاً بالتناقضات. نقف هنا لنتساءل: هل شخص لقب بأبي القنبلة النووية، وقاد مختبر لوس ألاموس الذي صمم فيه القنابل النووية الأولى، يستحق التبجيل ليصنع له فيلم بهذا الحجم، رغم إشرافه على صناعة القنبلة النووية، ويعلم بأن وظيفتها إبادة الناس، أي يشرف على صناعة سلاح دمار شامل، وهو على علم بذلك، ويقوم بتجربته بالبشر، ونتعاطف معه أيضاً؟!!

باربي الدمية المشهورة ابتكرتها الأمريكية من أصل بولندي يهودي روث هاندلر، سنة 1959، وتحديداً في9 آذار تاريخ ميلادها، وسميت على اسم إبنتها باربارا، لتأخذ شكل دمية بجسم إمرأة بالغة، حتى تغدو قدوة للطفلات والفتيات. ورغم أنه رافق ولادة باربي الأمريكية الكثير من الاحتجاج والامتعاض في الشارع الإمريكي، نجد اليوم أنه يوجد أكثر من مليار دمية باربي حول العالم، ولكن نتساءل هنا: لماذا لم يعرض الفيلم في نفس تاريخ ميلادها رغم أنه مناسب لعرض فيلم أوبنهايمر أيضاً كونه شهر الحرب وذكرى قصف طوكيو سنة ١٩٤٥؟ لقد دمر القصف الجوي الأكثر تدميراً في التاريخ طوكيو وأزهق من الأرواح أكثر من القنبلة النووية في لحظة انفجارها. إذاً الفيلم ركز على تناسي قصف طوكيو الذي لم يكن نووياً، مموهاً بذلك عن تأصل رغبة أمريكا في الإبادة قبل حرب هيروشيما وناغازاكي النووية..

باربي وصديقها كيم ومجموعة من أصدقائهم يعيشون في باربي لاند. تطرد باربي من المدينة وتواجه أزمة وجود في العالم الحقيقي، محاولةً إيجاد نفسها في حياتها الجديدة. باربي وأوبنهايمر الإنسان الحقيقي والدمية يعيشان صراعا وجوديا بين العلم والأخلاق والسياسة، وكل شخصية تحاول حل المشكلة من منظورها. من الممكن أن يكون التنوع والتناقض بين الفيلمين هو الذي جذب الجمهور. ورغم أن التشابه بينهما قليل إلا أن الحملة الترويجية غير المسبوقة، والتي بدأت قبل سنة تقريباً من العرض، ربطت بين الفيلمين النقيضين بين السياسي والكوميدي لايت بصورة تشبه سحابة نووية باللون الوردي، وبتكلفة بلغت 475 مليون دولار، ومشاركة عمال بالآلاف واستهلاك مواد بالأطنان.

ووسط ركود في سوق السينما لعدة أسباب أهمها المنصات الإلكترونية وإضراب صناع السينما، جاء عرض الفيلمين ليحقق أرباح فاقت 790 مليون دولار بأسبوع واحد.. إذاً المكسب كبير مادياً، ولكن نعود لنتساءل هنا: هل هذا الترويج الضخم بريء وهدفه مادي بحت؟

يقول البعض عكس ذلك، وبالتمعن أكثر نرى أن المكسب أكبر، وليس كما يبدو، بل موجه لكسر ثقافة وتوجيه أجيال واستخفاف بعقائدها. ولايمكن أن ننكر خطر الظاهرة التي بدأت تنمو، وهي ظاهرة اجتماعية وثقافية ولها أبعاد سياسية أيضا، بدليل أن فيتنام منعت عرض فيلم باربي لأنه يظهر خريطة توضح خط الفواصل الحدودية الأربعة المتنازع عليها مع الصين. وفي الهند أثار فيلم أوبنهايمر مشاكل للاستهانة بمعتقداتها لقراءة البطل كتابا مقدسا وسط مشهد جنسي. وفي اليابان منع الفيلم من العرض، وتصاعد الهاشتاغ المناوئ لظاهرة باربينهايمر وانضم له مغردون من أنحاء العالم، ممن اعتبروا غضبهم متفهماً للغاية، وأن الفيلم هو استخفاف بتبادل حادثة حزينة مثل القصف الذي ترك وراءه أجيالاً من الضحايا، وتخطت آثاره المدمرة ذوبان الأجساد إلى ندوب نفسية توارثتها العائلات، فضلاً عن أن الفيلم لا يحوي مشاهد لضحايا هيروشيما وناغازاكي، ولايوجد فيه إعتذار عن القنبلة النووية التي أبتكرتها أمريكا.. وكل ذلك يوحي بمحاولة فاجرة لنشر أفكار مرفوضة في بعض المجتمعات.

ولا يمكن أن نتجاهل خطورة ذلك على الأطفال الذين يتأثرون بأدق التفاصيل وبأبسط الحركات كما هو تقليد باربي بالسير على أطراف أقدامها، وهي الحركة التي تحولت لترند وإلى تحد كبير بين الأطفال، في حين أن الأطباء يحذرون من خطورة هذه الحركة على العمود الفقري. وأغلب المفكرين الشرقيين، وحتى المحافظين في الغرب، يرون أن باربي تمثل عالما ماديا وجنسيا بحتا، على عكس ما يراه الآخرون بأنها رمز للطفولة البريئة، فضلاً عن أن كيم صديق باربي سمي على اسم ابن روث هاندلر، أي أن أحد أشهر الزيجات الخيالية مستوحاة من أخ وأخت.

ولكن ..أليس خطر التقليد الأعمى وفق ما تم ذكره يوحي لنا بإعادة الهيكلة الفكرية إلى نمط ثقافي يفرض بأدق تفاصيله، وهو مايسمى بالهيمنة الثقافية؟ نجد ما نرفضه من أفكار يزرع في أطفالنا رغماً عنا، ألا يجب أن نكون ضمن فئة المتلقين الفعالين، ونعي حقيقة ضخ المفاهيم المسمومة من خلال هذه الظواهر.