أخبارصحيفة البعث

كيسنجر.. مجرم حرب أم صانع سياسات؟

تقرير إخباري

“أن تكون عدوّاً للولايات المتحدة أمر خطير، لكن كونك صديقاً ذلك أمر مميت”..

ربّما تكون هذه هي العبارة المفتاحية التي يمكن أن يبني عليها جميع قارئي النهج السياسي الذي اتبعه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، فالرجل شرح باختصار طبيعة العلاقة التي تربط بين الولايات المتحدة الأمريكية وسائر دول العالم، فإما أن تكون قطاً أليفاً “صديقاً” تابعاً للسيّد الأمريكي وهذا يفترض طبعاً أن تكون هذه الدولة التابعة منزوعة السيادة ولا تملك قراراتها، بل تتم إدارة سياساتها من واشنطن مباشرة، وهذا شأن الكثير من الدول الأوروبية مثل بريطانيا وألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث اختارت الأولى ذلك بإرادتها، بينما فُرض على ألمانيا أن تبقى تابعة للاحتلال الأمريكي بحكم الوجود العسكري الأمريكي على أراضيها أولاً، والتبعية الاقتصادية ثانياً.

أما الحالة الأخرى حسب كيسنجر، وهي أن تكون عدوّاً للولايات المتحدة، فإنها تقتضي طبعاً استمرار حالة الحرب الأمريكية على هذا البلد لإخضاعه، وهو شأن الكثير من الدول التي عانت وما زالت من الحروب التي تشنّها عليها واشنطن بكل المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وهناك قائمة طويلة من هذه الدول التي تعرّضت لهذا العداء الأمريكي، ابتداء من الاتحاد السوفييتي والصين، مروراً بفيتنام وكمبوديا وجنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وليس انتهاء بإيران وسورية اللتين تعرّضتا لشتى أنواع الحروب من الإدارات الأمريكية المتلاحقة مع بداية الربع الثالث من القرن الماضي وصولاً إلى تاريخنا هذا، مع بروز قيادات في كلا البلدين مناهضة للاستعمار والإمبريالية العالمية والمشروع الصهيوني التابع لهما.

لقد كان كيسنجر على وجه الحقيقة أحد منظّري الحروب الباردة في العالم، بالإضافة إلى وزير الخارجية البريطاني الأسبق وينستون تشرشل الذي وصف بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية بأنها حمار صغير يقف بين دب سوفييتي ضخم وجاموس أمريكي، وربّما استغلّ كيسنجر هذه الفكرة في تحقيق نوع من التوازن في طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون قائمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي من جهة، وبينها وبين الصين من جهة ثانية.

ورغم أن الرجل كان ضالعاً في كثير من الحروب الساخنة التي خاضتها الولايات المتحدة في مناطق كثيرة من هذا العالم، وخاصة حرب فيتنام التي كانت على وجه الحقيقة وقوداً ساخناً للحرب الباردة التي تشنّها واشنطن على الاتحاد السوفييتي، حيث قالت صحيفة “إنترسبت” نقلاً عن كاتب سيرته غريغ غراندين: إن كيسنجر ساهم في إطالة أمد حرب فيتنام وتوسيع هذا الصراع إلى كمبوديا المحايدة، وكذلك تسهيل عمليات الإبادة الجماعية في كمبوديا وتيمور الشرقية وبنغلاديش؛ وتسارع الحروب الأهلية في الجنوب الإفريقي؛ ودعمه الانقلابات وفرق الموت في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، وإن يديه ملطخة بدماء ما لا يقل عن 3 ملايين شخص، وهو ما وثّقه المدعي العام المخضرم في جرائم الحرب ريد برودي، وكان مسؤولاً عن مقتل عدد أكبر من المدنيين في كمبوديا ممّا كان معروفاً سابقاً، إلا أنه في الوقت ذاته كان يمتلك قدراً كبيراً من البراغماتية التي كانت تتأتّى عادة من قناعته أن عدوّاً كالاتحاد السوفييتي “روسيا فيما بعد” والصين، لا يمكن أن تُشنّ عليه حروب مباشرة لأن ذلك يعدّ انتحاراً، نظراً للقوة الهائلة التي يمتلكها.

رحل كيسنجر الذي كان ثعلباً ماكراً، وشخصية كبيرة مؤثرة، تاركاً وراءه إرثاً كبيراً من الدهاء السياسي الذي تمارسه الإدارات الأمريكية المتعاقبة في تعاملها مع دول العالم، ولكنه في الفترة الأخيرة كان يدرك جيّداً أن استمرار الصراع مع كل من روسيا والصين سيكون كارثياً على واشنطن، وربّما كان توجّه الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخير نحو الصين تعبيراً عن فهم هذه القضية، ومؤشّراً قويّاً على القناعة الأمريكية بضرورة القبول بالنظام الدولي الجديد، إذ يجب أن تتعلم أميركا والصين كيف تعيشان معاً، وأن تتوقف كل منهما عن إقناع نفسها بأن الأخرى تمثل خطراً استراتيجياً عليها، وإلا فإن العالم سيواجه صداماً بين القوتين العظميين “وما يفصلنا عن ذلك هو أقل من 10 سنوات”.

طلال ياسر الزعبي