أسامة الحمّود: ثمّة ما يُلزِم الشّعر بالنّزول من برجه الغامض.. المنبر بحاجة إلى ضبط وعلى المؤسسات الثّقافية تقديم التّأهيل للارتقاء بالسّويّة الأدبيّة
البعث الأسبوعية- نجوى صليبه
تواترت الجِـــــــراحُ فبــــــاءَ عدُّ
وجَــــــزرُ الحِقدِ يُثخِنُهــــا ومَـدُّ
وسَــــيفُ الغَدرِ مَغــــرُوزٌ بِظهــرٍ
وشَــــــرُّ الطَّعنِ ما يُؤتِيــــهِ وَغدُ
فعِنـــــدَ الرَّهـــــطِ مُختـــالًا تراهُ
وعندَ أســـــافِلِ الأعــــداءِ عَبـــدُ
يسِيلُ لعابُــــــهُ لِفُتـــــاتِ خَصـمٍ
ويَنســـــى ما لأُمَّتِـــــــهِ أعَـــدُّوا
كلمات من غضب وسخط وحزن نظمها الشّاعر أسامة الحمّود تحت عنوان “طوفان”، مشيداً بصمود أبناء فلسطين المحتلة في وجه العدوّ الصّهيوني، ومتفائلاً بنصرهم، يقول:
وما النَّصــرُ إلَّا من صَنِـيعَةِ فِتيَةٍ
أزاحُوا دَياجِيرَ الخُنُوعِ وبَسمَلُوا
تَنادَوا لِطُوفانِ الكرَامَةِ واعتَلَوا
بُرَاقَ المَنايـــا، والصَّهِيــلُ يُزَلزِلُ
وقبل هذا نظم الحمّود قصائد في رثاء الشّهيد وحبّ الوطن، وسؤالنا هنا: هل ما يزال الشّعر يؤدّي دوره في التّوثيق للحدث الإنساني والسّياسي ويفعل فعله في شحذ الهمم؟ أم أنّه ليس إلّا إثبات يقدّمه الشّاعر على تفاعله مع قضاياه الوطنيّة والقوميّة؟ وإن كنّا سنختار، فأيّ الأنواع الشّعرية الأكثر قدرةً على إنجاز التّوثيق؟ يجيب الحمّود: “أعتقد بأنَّ الشّعر لَمْ يكُن يوماً بمعزلٍ عن التّغيّرات الاجتماعيّة والثّقافية والعقائديّة للشّعوب، فكيف به عن القضايا المصيرية التي تنتصر للحقّ وتواجه الظّلم والعدوان؟.. لقد كان الشّعر دائماً وأبداً في طليعة الأجناس الأدبيّة والفنون والعلوم الإنسانيّة الّتي توثِّق للحدث، وتعلن عن اصطفافها إلى جانب الحقّ والعدالة، وتكشف وجه التّخاذل والعمالة، ولا أعتقد أنّ ثمّة ما يُلزم الشّاعر بإثبات تفاعله مع قضاياه الوطنية والقومية، إلّا انتماؤه لتلك القضايا كمواطنٍ أوّلاً، وكشاعرٍ ينبغي أن يفهم أنّ للشّعرِ دوره في التّوعية والتّنوير، وأنّ ثمّة ما يُلزِم الشّعر أن ينزل من برجه العالي الغامض ليكون في متناول الفهم، يحلّل ويفسِّر، ويشحذ الهمم، ويدحض غمام الإحباط والقنوط، ويواجه محاولات التّسفيه لكلّ فعلٍ انتمائيٍّ أصيلٍ، وإلّا فلا دوْر للشّاعر، وعليه أن يلزم الصّمت ويدخل زمن العطالة الشّعرية، وهنا ـ حتماًـ لا مكان لإشكالية نمط الكتابة، فإذا اتّفقنا أنّ الشّاعرية لا تتعلّق بنمطٍ محددٍ؛ فإنّ التّعبير عن الموقف من القضايا الوطنيّة والقوميّة، هو أقرب للعفوية منها للتّكلّف، وللدّفق الشّعري من النّظم، وللصّدق من الادِّعاء.
يتابع الحمّود معظم النّشاطات الثّقافية، بما فيها تأبين وتكريم شعراء وأدباء أحياء وراحلين، وأمّا الرّاحلون فما أكثرهم خلال السّنوات الأخيرة، بعضهم نال حظّه من التّكريم وهو على قيد الحياة، وبعضهم ـ للأسف ـ لم يتذكّره سوى أصدقاء يعدّون على أصابع اليد الواحدة، والحديث دائماً عن التّقصير المجحف بحقّ شعراء لمصلحة آخرين، وتلميع صفحة البعض والتّعتيم على صفحات البعض الآخر، يبيّن الحمّود: “أعتقد أنّ كلّ نشاط يصبُّ في تكريم شاعرٍ أو أديب، حيّاً كان أم راحلاً؛ لا يعدو عن كونه مبادرةً فرديّةً من بعض أصدقائه والمقرَّبين منه، أولئك الذين عايشوا إبداعه وتجربته الأدبية وتأثّروا بها أو أثَّروا فيها وتفاعلوا معها، فإذا كانت هذه الظّاهرة صحّيَّة في المجمل؛ فربّما تكون أكثر صحّة فيما لو جاءت كفعلٍ منظَّم تبادرُ به المؤسسات الثّقافية على اختلافها، وهذا الفعل يستوجب البحث عن الإبداع والمبدعين، والمبادرة باتّجاههم، إذ ليس كلّ أولئك تبهرهم الشّهرة والأضواء، فمنهم من يستحقّ نتاجه الأدبي احتفاءً أكبر بكثير ممن يُحتفى بهم، ولا ينبغي أن يكون الاحتفاء ردّ فعلٍ تجاه شهرة تحققت بطريقةٍ أو بأخرى، بل يجب أن تملك زمام المبادرة لتسلّط الضّوء على الإبداع الحقيقي، وهنا لا بدّ لي أن أُكبِرَ الظّاهرة التي خلقها اتّحاد الكتّاب العرب، وفي المقدّمة رئيس الاتّحاد الدّكتور محمد الحوراني، والمتمثّلة باهتمامه بتحقيق حالة اجتماعية فريدة في الأوساط الثّقافية، تُعنى بشؤون الأدباء والمثقّفين اجتماعيًّاً وصحيًّاً وإنسانيًّاً، وفي الاتّجاهات كلّها، الأمر الذي انعكس إيجاباً في إحياء دور الاتّحاد كحاضنة للثّقافة والمثقّفين، وأعاد الثّقة إلى سابق عهدها، مضيفاً: “وهذه الحالة الجديدة تُضاف إلى ما يحتاجه أعضاء الاتّحاد من حقوق يؤطّرها النّظام الدّاخلي للاتّحاد والقرارات المتمخّضة عن مؤتمراته المتعاقبة”.
وبالسّؤال عن وجود أدباء غير أهل لأن يكونوا أعضاء في الاتّحاد، يجيب الحمّود: “هذا أمر تقدرّه سلسلة المراحل التي يمر بها طالب الانتساب بدءاً من تقديم طلبه، مروراً بالمقيِّمين والجمعية المعنية وفرع الاتّحاد المعني والقارئ النّهائي والمكتب التّنفيذي، وأعتقد أنّ هذه أطول سلسلة يمكن أن يمرّ بها طالب انتساب، فإذا كان ثمّة من لا يجب أن يكون عضواً في الاتّحاد على الرّغم من كلّ هذه الحلقات، فهناك خلل ما يجب التّحقق منه، وأعتقد أنّ الاتّحاد اتّخذ خطوةً إضافيةً من شأنها إلغاء عضوية المرشح ما لم يستطع تطوير قدراته وأدواته وتجربته الأدبية عموماً خلال فترة الترشُّح للعضوية النّهائية في الاتّحاد”.
وبعيداً عن اتّحاد الكتّاب ـ لكن ليس كثيراًـ، ماذا نفعل بما يلقى على المنابر الرّسمية وغير الرّسمية في الأمسيات والأصبوحات تحت مسمّى “شعر”؟ يجيب الحمّود: “أنا قلت مراراً إنّ المنبر بحاجة إلى ضبط، وما يقدَّمُ ـ اليوم ـ هو خليط من الشّعر، واللاشعر، وأنا قطعاً لا أدعو إلى احتكار المنبر من قِبل المبدعين فقط، لكنّني مع الحفاظ ما أمكن على هيبة المنبر وقدسيّته، فمن يليق أدبه بالمنبر؛ المنبر مُتاح له، ومن هو دون ذلك؛ ينبغي أن تأخذ المؤسسات الثّقافية على عاتقها تقديم التّأهيل والدّعم لكي ترتقي بالسّويّة الأدبيّة وتتناسب مع مكانة المنبر، ولعلّ تجارب ملتقيات الأدباء الشّباب في مختلف المراكز الثّقافية، هي تجربة تُرفع لها القبعة، إذ تتيح منبراً نقديًّاً ينصح ويصوِّب ويقوِّم تجاربَ تستحقّ أن تُحتّضن، ولا بدَّ أن أشيدَ هنا بتجربةٍ متقدّمة بالمركز الثّقافي العربي في المزّة، الذي يديره الشّاعر إبراهيم منصور، والذي يقدِّم مشروعاً متفرِّداً انتقل بالأمسيات الأدبية من حالتها الكلاسيكية إلى حالة حوارية ترتقي بالذّائقة الأدبية، وتقدِّمُ الفائدة الحقَّة.
ذائقة يجب أن نؤسس لها منذ الطّفولة، وهذه مهمّة الأسرة أوّلاً، أي عليها أنّ تراقب أطفالها وتعرف اهتماماتهم وتنمّيها، وهذا ما كان مع الشّاعر أسامة الحمّود، إذ شاركت ابنته تالا بأكثر من نشاط ورأيناها كيف تلقي الشّعر بلغة سليمة، يبيّن الحمّود: “لديّ اعتقاد راسخ بأنّ الطّفل ابن البيئة التي يحيا فيها ويتأثّر باهتمامات والديه وأفراد أسرته، إن بصورةٍ مباشرةٍ أو بصورةٍ غير مباشرة، فتظهر ميوله التي نستطيع تنميتها بتعميق أدواتها وإتاحة سبلها، وقد لاحظت لدى ابنتي تالا اهتماماً بما تسمع من الشّعر، وفوجئت بها ذات مرّة تحفظ بضع أبيات من قصيدة لي، فعززت لديها هذا المنحى، وبدأت بتشجيعها على حفظ مجموعات أخرى من الأبيات، ثم كان أن شاركت أكثر من مرة في المراكز الثّقافية على هامش الأمسيات الأدبية، فتولد لديها شغف بالشّعر، وبدأت تدوّن يومياتها بأسلوب جميل، وحتى في تصفّحها للإنترنت؛ تستهويها المواضيع الأدبية ومقاطع الإلقاء الشّعري، وتالياً نحن هنا لا نتحدّث عن مستحيل، المطلوب فقط أن نولي أطفالنا الاهتمام اللازم بما يتوافق مع ميولهم، وأن نهييء لهم البيئة المناسبة لتنمية مواهبهم، ونعلّمهم كيفية تسخير التّكنولوجيا الحديثة لخدمة مواهبهم، بدلاً من إضاعة الوقت معها بما لا ينفع”.
الحديث عن الذّائقة الفنّية والأدبية يطول كما الحديث عن أمجادنا الشّعرية الماضية التي لن نستعيدها الآن، لكنّنا سنسأل فقط عن مكانة الشّعر السّوري ـ اليوم ـ عربيّاً وعالمياً، يجيب الحمّود: “عموماً، أعتقد أنّ الشّعر السّوري يحظى بمكانةٍ متقدّمة في المحافل العربيّة والعالميّة، والشّاعر السّوري يبدعُ أينما حلّ، ويتفوّق على أقرانه، ويقدِّم نموذجاً فريداً للحالة الشّعرية العالية، ولنا أن نستعرض نتائج المسابقات والمحافل الأدبية العريقة التي يُسجِّل فيها الشّاعر السّوري حضوراً مهمًّاً”.
كلام صحيح، لكن في حال كانت الجهات الرّاعية للمسابقات تتسم بالموضوعية والمهنية والأكاديمية والمصداقية، وللأسف هذا ما لم يتحدّث عنه شعراء ـ بعضهم كان مشاركاً فيهاـ ، فإن كان الأمر كذلك، ماذا تقدّم هكذا مسابقات للشّعر؟ يوضّح الحمّود وهو الحاصل على المركز الأوّل في مسابقة “قصيدة الأغنية الوطنية” التي أقيمت بإشراف اتّحاد الكتّاب العرب ووزارة التّربية في عام 2021: “هذا يتعلق بالقائمين على تلك المسابقات، من منظِّمين ومحكِّمين، فالقراءة الأوّلية لأسماء هؤلاء، يمكن أن تجعل الحكم سهلاً وبسيطاً، وبعيداً عن المسابقات التي تمنح ألقاباً كرتونية، وشهاداتِ الدّكتوراه المجَّانية التي يمنحها بعض الأميِّين؛ فإنّ المسابقات الحقَّة يمكن أن تخلق جوّاً من المنافسة الحقيقية، وتتيحَ تبادل الخبرات وتلاقح المشارب، لتُحقق لدى المتسابق حالة متقدّمة ترتقي بسويّة نتاجه، والشّعر الحقيقي لا يُخفي ذاته، مضيفاً: “لقد شاركت بتحكيم بعض المسابقات الشّعريّة مؤخرّاً، ووجدتُ أنّ ثمّة اتّفاق بين أعضاء لجان التّحكيم على المشاركات المميزة، على الرّغم من أنّ كلّ واحد منهم يقيِّم المشارَكات بمعزِلٍ عن الآخر، ومن دونَ معرفة باسم المُشارك، وهذا ما يعزِّز مقولة أنّ الشّعر الحقيقي كالشّمس المُشرقة لا تحدُّها حدود، ولا يحجبها حجابٌ عن عين الذوَّاقة”.
في رصيد الحمّود المجموعات الشّعرية الآتية: “قيثارة صدى” الصّادرة في عام 2019، و”ضفائر بوح” الصّادرة في عام 2016، و”أكف الياسمين 2018، و”ضوع قصيد وبعض نثار” الصّادرة في عام2021، وهي عناوين مختلفة إن لم نقل متميزة يختارها الحمّود على ما يبدو بعناية فائقة، يوضّح: “عنوان المجموعة الشّعرية هو واحد من أهم عتبات المجموعة شأنه شأن العنوان في أي نصّ أدبيّ، ينبغي أن يعبّر عن مضمونها وأن يحقق الإدهاش المطلوب الذي يجذب القارئ لاستكشاف ما ورائه، والواقع أنّ اختيار عنوان المجموعة الشّعرية عندي يأتي كمرحلة أخيرة بعد إنجاز المجموعة، في إطار البحث عن القاسم المشترك لكلّ النّصوص، ليُعبَّر عنه بصورة جمالية مدهشة تحقق غرض العنونة والجذب في آن معاً، وكذلك كلّ تفصيل على الغلاف له دوره الذي يؤديه وفقاً للنّقاد الذين يركّز بعضهم على دراسة العتبات قبل الولوج إلى عوالم المجموعة”.
الشّاعر الحمّود عضو اتّحاد الكتّاب العرب، وهو أيضاً عضو هيئة تحرير في صحيفة “الأسبوع الأدبي” التي تصدر عن الاتّحاد، لكن ما الذي يقدّمه العمل الإداري ها هنا؟ وهل يشكّل عبئاً أم قيمة مضافةً له؟ يوضّح: “بالتّأكيد هو قيمة مضافة في اتّجاهين، الاتّجاه الأوّل: هو الاطّلاع على طيفٍ واسعٍ من التّجارب في الكتابة الأدبية واستكشاف مكنونات الكاتب ومذهبه الأدبي، والاتّجاه الثّاني: هو إتاحة فرصة النّور أمام النّصوص المميزة لكي يطّلع عليها طيفٌ واسعٌ من متابعي الأسبوع الأدبي، ورفد النّصوص ذات السّوية الأقل بالملاحظات التي يمكن أن تشذّب تجربتهم وتضفي عليها الصّبغة الأدبية المطلوبة، هذا بالإضافة إلى التّماس المباشر مع تجارب ورؤى الزّملاء أعضاء هيئة التّحرير على اختلاف مشاربهم بما ينعكس إيجاباً على التّجربة الخاصّة”.
وبالعودة إلى دراسته الأولى وتحصيله الأكاديمي، فالشّاعر أسامة الحمّود حاصلٌ على دكتوراه في الهندسة الزّراعية وعضو هيئة تدريس في جامعة الفرات، ولأنّ الزّراعة تتشابه والشّعر ببعض الخصائص ـ إن صحّ التّعبيرـ، وعلى غير عادتنا سنسأل عمّا قدّمته الزّراعة كمهنة أساس للشّاعر في كتابه الشّعر، يجيب الحمّود: “إنّ أوّل ما يمكن معه الرّبط بين الزّراعة والأدب عموماً، هو أنّ ثمّة بيئة خصبةً مناسبة، تحتضنُ بذرة صالحة، تُسقى بماء العناية والاهتمام، لتُنتِش وتترعرع، ويصلبَ عُودها، وتكبرَ لتغدوَ شجرةً ثابتةً جذرها في الأرضِ وفروعها تطاول عنان السّماء، تؤتي ثماراً طيّبةً، وهذا ما يصلُح إسقاطه على الزّراعة والأدب في آن معاً، فكلاهما يحتاج إلى هذه المراحلِ برمَّتها لينضُجَ ويؤتي أكُله”.