مجلة البعث الأسبوعية

محمد الضيف.. القائد الأسطوري لعملية” طوفان الأقصى” الذي لا يعرف صورته أحد

“البعث الأسبوعية” ــ لينا عدرا

يمكن رؤية اسمه باستمرار في شوارع غزة المدمرة، وفي قرى وبلدات الضفة الغربية التي تتقلص يوماً بعد يوم، كما على جدران مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، تحت أعلام صفراء تحمل شعار المقاومة. وفي المظاهرات والمسيرات يُذكر اسمه عند الحديث عن عودة فلسطين و.. الخلاص من أهوال الاحتلال الصهيوني.

رجل لا مثيل له، جرى إعلان “مقتله” عدة مرات. وطوال ثلاثين عاماً، كان ولا يزال العدو رقم 1 لـ “إسرائيل”، والمقاوم الذي رد على الهمجية الإسرائيلية والفصل العنصري والإبادة الجماعية مرات عديدة من قبل. إن استراتيجياته ومعرفته بحرب العصابات هي التي جعلت “إسرائيل” تركع على ركبتيها. لكنه في عداد المفقودين، – ولا أحد يسمع عنه شيئاً – منذ استدعائه للعمل في حرب عام 2014: عندما قررت “إسرائيل” مرة أخرى “جز العشب”.. أي تهجير وقتل السكان المدنيين في فلسطين.

 

اسمه.. محمد ضيف

خلال غزو إسرائيل لغزة عام 2014، بدعم عسكري أمريكي ضخم، واجه القطاع اثنتين من القوى العالمية الأكثر عسكرية وتوسعية على وجه الأرض. كان العالم المذعور يراقب بألم شديد، بينما كانت “إسرائيل” تحاول، يوما بعد يوم، ودون تمييز، قتل المدنيين وتسوية المنازل بالأرض، بعد تكبدها خسائر عسكرية لا يمكن تصورها.

وبعد مشاهدة إسرائيل لأسابيع وهي تدمر الممتلكات المدنية والبنية التحتية الفلسطينية وأرواح الآلاف من الأبرياء، تنفس أحرار العالم الصعداء عندما تمكنت المقاومة، باعتبارها “الجيش” الوحيد الذي نجح في الدفاع عن غزة، من فرض وقف إطلاق النار، والانتقال إلى طاولة المفاوضات في القاهرة.

كان قائد المقاومين، ذو القبضة الحديدية، محمد ضيف آنذاك أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق النصر النهائي في غزة، والانتصار الوطني للشعب الفلسطيني، و.. للعالم المتحضر.

ومع ذلك، فور التوصل إلى اتفاق، أدى النفوذ الإسرائيلي ونفاق الغرب والدول العربية، وتردد السلطة الفلسطينية، والضغوط الأمريكية على مختلف دول العالم، إلى إجهاض الانتصار!

ومرة أخرى، وبعد بضعة أشهر فقط، عادت الطائرات الحربية الإسرائيلية للاستهداف العشوائي للمدنيين في غزة. وفي الوقت نفسه، تحول الجنود الإسرائيليون من استخدام الغاز المسيل للدموع إلى الذخيرة الحية لقمع الفلسطينيين الذين لا يقبلون سرقة عاصمتهم الشرعية، القدس، على يد الرئيس الأمريكي المتملق دونالد ترامب. وبناء على طلب إسرائيلي، لم يتم تحويل الأموال المخصصة لإعادة بناء غزة بعد الحرب، وتم قطع إمدادات المياه وكذلك الكهرباء بشكل متكرر، مرة أخرى، كنوع من العقاب الجماعي، وتم الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين بانتظام واستبدالها بالمزيد من المستوطنات، وبقيت المعابر مغلقة، والإمدادات الطبية نادرة، والمساعدات الخارجية مقيدة.

كان ذلك قبل تسع سنوات. وها هي الحرب وقد عادت الآن بعودة أسبابها، وعاد الضيف في عملية عسكرية جريئة تستحق الاسم الذي يرددونه. خطوة أولى جديرة بسجل البطولة في حرب العصابات.

فمن هو بطل فلسطين هذا؟

تحاول وسائل الإعلام التي تسيطر عليها إسرائيل، والتي لديها القليل من الحقائق حول محمد ضيف، ناهيك عن أي استعداد للتوسع في شرح أسباب الهزيمة العسكرية المباشرة لإسرائيل في عام 2014، تشويه سمعة محمد ضيف بمصطلحات عامة، مثل “غامض” و”غير معروف نسبياً”، وهذه الصحافة قصيرة النظر تفوت الوصف الأكثر أهمية ودقة لهذا البطل الذي ظل، طوال حياته، “القائد العسكري” للشعب الفلسطيني، بطل حرب العصابات والتكتيكات التي طالما حققت النصر من قبل.

 

تجسيد لفلسطين

ولد محمد ضيف عام 1965 في مخيم خان يونس للاجئين جنوب قطاع غزة. وتنحدر عائلة ضيف في الأصل من قرية كوشفا الفلسطينية التي يرجع تاريخها إلى ما قبل عام 1948، بالقرب من خط “آشكي” حالياً، والذي تم تجريفه لإفساح المجال للتوسع الاستيطاني. وبسبب التهجير الجماعي نحو العديد من مخيمات اللاجئين، وُلد محمد ضيف في معتقل كبير.. إنه تجسيد لفلسطين.

تقول بعض التقارير أن الضيف كان عضواً في فرقة مسرحية تدعى “العائدون” عندما كان طالباً في الجامعة الإسلامية في غزة. وهذا هو الشيء الذي استمر فيه حتى بعد انضمامه إلى المقاومة، حيث كان يؤدي أحياناً أدواراً في مقاطع الفيديو الدعائية.

ومثل العديد من القادة الفلسطينيين، الذين انضموا إلى حركات التحرر الوطني، بدأت علاقة الضيف مع المقاومة خلال فترة دراسته الجامعية. كان ناشطاً في الحركة الطلابية. ومع اندلاع الانتفاضة الأولى، انضم إلى صفوف المقاومة. واعتقلته إسرائيل في أيار 1989، وحكم عليه بالسجن ستة عشر شهراً.

بعد إطلاق سراحه في عام 1991، توجه الضيف مباشرة إلى كتائب القسام، حيث التقى بمعلمه “المهندس” يحيى عياش، الذي ترأس الكتائب حتى اغتياله في عام 1996. عرف عياش بمهاراته في صنع القنابل، وقام بتعليم محمد ضيف هذه المهارات والتكتيكات العسكرية الضرورية.

تدرج الضيف في الهيكل القيادي للمقاومة. وفي عام 1994، اختطفت الخلايا التي كانت تحت قيادته ثلاثة جنود إسرائيليين، هم نحشون فاكسمان وأرييه فرانكنثال وشهار سيماني.

وعندما اغتال الإسرائيليون عياش باستخدام هاتف محمول متفجر، كان الضيف هو العقل المدبر لسلسلة من الهجمات الاستشهادية بالقنابل في قلب المدن الإسرائيلية في شباط وآذار من العام 1996، والتي قُتل فيها ثمانية وخمسون إسرائيلياً في أسبوع واحد.

بعدها، غاب محمد ضيف تحت الأرض، ومنذ منذ ذلك الحين لا أحد يتعرف إليه إلا من خلال صوره نادرة للغاية.

في تموز 2002، أصبح الضيف قائداً لكتائب القسام، بعد أن اغتالت إسرائيل زعيمها السابق صلاح شحادة. ومنذ ذلك التاريخ، نجا المقاتل المراوغ من سبع محاولات اغتيال إسرائيلية على الأقل، استشهدت في الأخيرة منها زوجته وطفلاه، بما في ذلك ابنه الرضيع. كما فقد إحدى عينيه وذراعه وساقه في محاولات الاغتيال تلك.

في 22 آب 2001، نجا الضيف ونائبه عدنان الغول من محاولة “اغتيال مستهدف”. وفي 26 أيلول 2002، أطلقت مروحية أباتشي تابعة للجيش الإسرائيلي صاروخين من طراز هالفاير على سيارة ضيف أثناء عودته إلى منزله من زيارة تعزية في منطقة الشيخ رضوان بغزة.. ونجا!!

حاول جيش الحرب الإسرائيلي مرة أخرى، في آب 2003، قصف الطابق العلوي من مبنى سكني كانت تجتمع فيه قيادة المقاومة، بما في ذلك الضيف. وكان الرجال في الطابق السفلي من المبنى وهربوا مصابين بجروح طفيفة.

محاولات الاغتيال الإسرائيلية جعلته في حاجة إلى رعاية طبية مستمرة. فعندما يسافر محمد ضيف، يذهب برفقة فريقين منفصلين من رجال الأمن الذين يختارهم ويثق بهم شخصياً. ومن الواضح أنه أيضاً ماهر في التنكر، وبما أنه لا توجد صور حديثة له، يُقال إنه كان يتنقل في غزة بمفرده دون أن يتم اكتشافه.

يسترجع أحد أقرب رفاقه ذكرياته عنه قائلاً: “كان لطيفاً للغاية”.. “كان ضيفاً”، في إشارة إلى أسلوب حياته البدوي حيث يقوم باستمرار بتغيير مكان مبيته كل ليلة لتجنب التعرض للاغتيال على يد الإسرائيليين.

يتذكر صديق الضيف أنه، في السجن، “كان الضيف يرسم رسوماً كاريكاتورية صغيرة لإضحاكنا”. لكن ضيف كان يركز على هدف ما.. “منذ بداية حياته في مقاومة، كان يركز على المسار العسكري”.

اثنان فقط من كبار الشخصيات يعرفان مكان وجوده،. ورغم أن الضيف نادرا ما يظهر، إلا أنه يتمتع بحضوره الطاغي بين كوادر المقاومة السياسية والعسكرية بقبضة، وينتظر المجلس العسكري للمقاومة وهيئة الأركان العامة مباركته قبل اتخاذ أي إجراء.

وقد ظهرت القوة الحقيقية لمحمد ضيف داخل الهيكل السياسي الداخلي للمقاومة بوضوح في انتخابات 2012 – 2013، السرية للغاية، لهيئة الحكم ومجلس الشورى. فعلى الرغم من محاولة خالد مشعل تأمين مقاعد للموالين له، إلا أن الضيف انتصر، وحصل على مزيد من الدعم وعلى مقاعد جديدة لمؤيديه الذين اختارهم بنفسه بدلاً من ذلك.

 

حرب العصابات

تاريخياً، مكنت إستراتيجية حرب العصابات من تحرير العديد من الشعوب المضطهدة، وبنت أمماً. غير أن حرب العصابات هي أكثر من مجرد أسلحة وتفجيرات. إن النصر، المصمم لقهر القمع بشكل نهائي، يتطلب لعبة شطرنج تتجاوز مجرد الإستراتيجية العسكرية إلى الدهاء السياسي. وكان بوسع محمد ضيف، في عام 2014، أثناء وجوده في مخبأ مجهول في أعماق غزة، أن يتأمل في فقدان زوجته وابنته في قذيفة دبابة إسرائيلية مكتوب عليها اسمه، ويعمد، كما تنبأ التاريخ وممارسات ماو وغيفارا، بتحويل رعب ما أطلق عليه الجيش الإسرائيلي اسم عملية “الجرف الصامد”، 2014، ودامت شهراً كاملاً، إلى هزيمة للاحتلال في غزة، وموقفاً سياسياً وتفاوضياً قوياً لفلسطين كلها، في أعقاب الحرب مباشرة.

ظهر الدليل على انتصار المقاومة بسهولة في وقف إطلاق النار النهائي؛ وهو ما دعت إليه “إسرائيل” أخيراً بعد أن استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد قرارين مماثلين لمجلس الأمن الدولي. وتحت وطأة للخسائر الكبيرة غير المتوقعة في صفوف قواته، كان نتنياهو على شاشة التلفزيون يشبه كيانه إلى حد كبير: متعباً ومرتبكاً بشأن الحقائق، غابت سخريته المتعجرفة بشكل واضح، وتحولت إلى اختلاق للأعذار وإلقاء اللوم. لقد تم إطلاق النار على ثقته المتهورة، وأرسلت هذه الثقة إلى قعر سلة مهملات مكتبه مع بقايا ما كشفت عنه وسائل الإعلام الإسرائيلية، وسط الصدمة والمفاجأة، في ذلك الأسبوع: أربعة وستون جندياً إسرائيلياً قتيلاً على الأقل، وأكثر من 1600 آخرين من الجرحى، إضافة إلى أكوام وأكوام من الحطام العسكري.

لقد أظهر محمد ضيف قيادة وطنية فيما بدا انتصاراً مدوياً للمقاومة ولغزة. ومن أجل فلسطين،

ولذلك كان أخطر رجل تبحث عنه السلطات الإسرائيلية!!

وحرب العصابات هي أسلوب حرب يمكن إرجاعه إلى القرن الثالث قبل الميلاد. عندما نجح فابيوس مكسيموس باستخدام هذا النوع من القتال ضد قوات هانيبال الأكبر بكثير خلال الحرب البونيقية الثانية. ومنذ ذلك الحين، تم استخدام تكتيكات حرب العصابات، مراراً وتكراراً، وغالباً ما أثبتت انتصاراتها عبر التاريخ.

إن استخدام ماو تسي تونغ ونظريته لحرب العصابات تم استخدامه وتكييفه من قبل الجنرال الفيتنامي فو نجوين جياب الذي قاد الانتصارات في مواجهة إمبراطوريتين، وليس لديه سوى جيش غير مجهز، وإرادة القتال والمقاومة، والأنفاق.. أميال وأميال من الأنفاق.

إنه تكتيك ناجع، وإلا، كيف كان سينتهي نضال جنوب أفريقيا دون المقاومة المسلحة لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي؟ وهل كانت أيرلندا ستنال استقلالها الذاتي من بريطانيا لولا الجيش الجمهوري الأيرلندي؟

 

ماذا يريد؟

لا يزال الغموض يكتنف العديد من تفاصيل حياة ضيف مع وجود العديد من الأمور المجهولة، بما في ذلك من كان والداه ونوع طفولته. والدليل على طبيعته السرية هو عدم وجود صورة واضحة له. وتعتقد المخابرات الإسرائيلية أن اسمه الحقيقي هو محمد دياب إبراهيم المصري.

فيما مضى، كان أقارب الضيف جزءاً من الفدائيين الفلسطينيين، الذين شنوا في الخمسينيات من القرن الماضي هجمات على المواقع والمستوطنات الإسرائيلية.

في أوائل التسعينيات، كان الضيف، مثل العديد من الفلسطينيين، غاضباً من اتفاقيات أوسلو التي وقعها ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، والتي تم التنازل بموجبها عن العديد من الأراضي الفلسطينية لإسرائيل.

دعا الضيف منذ فترة طويلة إلى مهاجمة إسرائيل. وعلى عكس العديد من الشخصيات الفلسطينية القيادية، فقد كان غير مهتم بالصراعات الداخلية على القيادة الفلسطينية بين مختلف الفصائل والقادة، مركزاً بدلاً من ذلك بثبات على الجبهة الإسرائيلية، وفقاً للخبراء.

وفي أواخر عام 2010، كتب الضيف مقالاً حدد فيه هدف مجموعاته وفقاً لرؤيته الخاصة للصراع، مؤكداً إن “فلسطين ستبقى لنا” بما في ذلك القدس والأقصى ومدن وقرى الضفة الغربية.. من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، من شمالها إلى جنوبها.. أنتم (إسرائيل) “لا يحق لكم، ولو شبر واحد منها”.

 

“طوفان الأقصى”..

بموجب التدريب والتكتيكات التي اختارها محمد ضيف، تحولت كتائب القسام إلى جيش هائل على غرار حزب الله، الذي أرغم “إسرائيل” على القبول بوقف إطلاق النار في لبنان، في عام 2006. وعلى نحو مماثل، تكمن قوة كتائب القسام في قدرتها على تنفيذ هجمات متنقلة قاتلة ومعقدة بسرعة.

ومع “طوفان الأقصى”، العملية الخاطفة المتعددة الجوانب الذي شنتها الكتائب على المستوطنات الإسرائيلية في محيط غزة، في هجوم لا سابق له منذ حرب تشرين التحريرية عام 1973، قاد الضيف تحولاً في سلطة غزة من السياسي إلى العسكري،

ويقال إن “طوفان الأقصى” كان عملية نظمتها القيادة العسكرية، دون علم القيادة السياسية في غزة حتى وقت متأخر جداً..

لقد وقف الضيف في قلب هذا التحول الاستراتيجي. ولعل ذلك يساعد في فهم خطورة هجوم 7 تشرين الأول على “إسرائيل”، وعلى الاتجاه الذي تسلكه المقاومة.