أمريكا تبحث عن شركاء “يشبهونها”.. والصين تتطلع لفائدة الجميع
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
إن المتتبع للسياسة الأمريكية يستشف بشكل لا لبس فيه مدى تكرارها لمصطلح البحث عن شركاء “يشبهونها”، أو البحث عن شركاء يحققون مشروع “الديمقراطية” كهدف سياسي أول لواشنطن، ونجد أيضاً اتهامات غربية للمشروع الصيني بأنه مشروع يهدف لـ”منافسة أمريكا والغرب”، و”إيقاع الدول النامية في فخ الديون لشراء أصولها”. وهنا يحضرنا التساؤل كيف يمكن لأمريكا أولاً بناء شراكات متجانسة وضمن المنطقة الواحدة أو ربما القارة الواحدة، إذا كانت أساساً تصنف الدول وفق قوائم متعددة “دول ديمقراطية، دول أوتوقراطية” أو “دول حليفة، دول عدوة”؟ وكيف مثلاً يمكنها تنفيذ مشروع مشابه لمبادرة الحزام والطريق بنكهة أمريكية في إفريقيا إذا وجدنا دول متجاورة ومنها ما هو مصنّف وفقاً لمعاييرها على أنه “ديمقراطي”؟ فلا يمكن لواشنطن الشراكة معه، ومنه ما هو مغاير لمعايير تلك الإدارة ولا يمكن الشراكة معه أيضاً، وبالتالي سنكون أم حالة من التشرذم تسود أي مشروع أو مبادرة كبرى قد تقدّم عليها الإدارة المذكورة، ناهيك عن المعايير ذاتها التي لم تعد مقبولة أمام جميع شعوب، بل حتى حكومات الدول، فأمريكا تصنف النظام الأوكراني النازي الفاشي على أنه أسس دولة ديمقراطية، ويجب حرق قارة بأكملها أو ربما التسبب بحرب عالمية ثالثة كرمى لعيونها، وحفاظاً على “تجربتها الديمقراطية الفريدة” القائمة على تصفية الشعب لبعضه رغم بلده الأم الواحد، كما تصرّ أيضاً على حماية ودعم وتأييد “إسرائيل” بشتى أنواع الدعم، بل حتى عبر الاشتراك المباشر في معاركها ضدّ الأطفال والأجنّة والخدج في مشافي قطاع غزة المحاصر والمدمر بحجة أن “إسرائيل ديمقراطية فريدة” في منطقة الشرق الأوسط. أمام هذه المعايير والتصنيفات نرى مدى حجم خطورة هذا المشروع القائم على تصنيفات تخدم مصالحه ليس إلا، بل أكثر من ذلك يمكن أن يحول أي دولة إلى جبهة حرب مشتعلةً وحتى لو كان الصراع غير متكافئ خدمة للمصالح الأمريكية، كما يحدث من خطوات التحريض الأمريكية للدول والكيانات الجزرية في بحر الصين الجنوبي ضدّ الصين، تارةً بالتسليح وتارة بالزيارات الدبلوماسية، وإرسال المدمرات وإقامة القواعد الأمريكية والمناورات الاستفزازية والتي قد تسبب عبر أي تحرّك خاطئ الإنزلاق إلى حرب مع دولة نووية.
أما على المقلب الآخر فيمكننا بوضوح إلتماس حجم التعاون الذي تقدّمه الصين لجميع الدول النامية ضمن مبادرة الحزام والطريق، بغض النظر عن سياساتها الداخلية أو شكل الحكم فيها أو كانت ديمقراطية أم لا، وهي تعتمد في كل خطواتها على مبدأ أنه كلما زاد النمو حجم النمو الاقتصادي في بلد ما، كلما زاد الأمن لأن أي بلد يحقق خطوات في التنمية تصبح كلفة الحرب عليه عالية جداً، ما حقق خطوات جيواستراتيجية غير مسبوقة للصين على مستوى كل القارات، باستثناء أمريكا الشمالية.
ولقد كان من أهم النجاحات الجيواستراتيجية للصين في منطقة الشرق الأوسط تقريب وجهات النظر والمصالحة بين السعودية وإيران، وكانت هذه اللحظة التاريخية مؤشر كبير على مدى قدرة الصين على تحقيق السلام في منطقة عجزت الولايات المتحدة عن فعل أي شيء فيها سوى إشعال الحروب والفتن وإثارة القلاقل، رغم القواعد والأساطيل التي نشرتها فيها بحجة حماية بعض الدول، والتي تبين أنها لم ولن تحميها ضدّ أدنى تهديد.
أما بالنسبة للقواعد العسكرية الصينية، ومثالها “جيبوتي” فإن للصين -في خضم التهديات والاستفزازات الأمريكية واعتمادها حرب المضائق وإنشاء “ناتو آسيوي” ضدها بالتحالف مع كوريا الجنوبية واليابان- الحق في حماية مصالحها واستثماراتها ضمن المبادرة التي أنفقت خلالها أكثر من واحد تريليون دولار، والتي ستتضرر مشاريعها عند حدوث حروب في أي بلد تقام عليه تلك الاستثمارات، وبالتالي فإن الصين خصصت عدّة موانئ من التي أقامتها ضمن المبادرة لتكون ذات استخدام مزدوج “تجاري، عسكري” ليس من باب مدّ النفوذ كما يدعي بعض المشككين، بل من باب حماية استثماراتها.
إن الصين لا تمول فقط المشاريع الاقتصادية فمن الممكن وضمن نظرة تنموية متكاملة للدول أن تمول أهدافها القومية مثل المساعدة في إطلاق قمر صناعي لدولة، كما أن هدفها من إقراض الدول النامية لا يمكن بشكل من الأشكال أن يكون بهدف “إيقاعها في فخ الديون”، وعلى سبيل المثال فإن الصين موّلت 20% من الديون السيادية للقارة الإفريقية، ولكن بالمقابل فإن 80% من بقية الديون هي لروسيا وتركيا واليابان والهند وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمات متعدّدة الأطراف، والسؤال الذي يطرح نفسه هل ستكون الصين مع بقية تلك الدول والمنظمات -متعددة الاتجاهات- شريكة أيضاً في “نصب فخّ للدول النامية” سواءً في القارة السمراء أم في غيرها من القارات والمناطق؟ وهذا دليل على عدم صحة الاتهام، فهي ليست القطب الممول الوحيد للدول النامية، ولا تمانع في اشتراك أي طرف آخر معها في أي استثمارات أو قروض، كما أن إفريقيا والكثير من الدول النامية أمام خياران لتحقيق طموح اللحاق بركب الحضارة العالمية، إما المعاناة الطويلة أو الاقتراض لتحقيق أحلام ومستقبل الأجيال القادمة، وحتى لو تعثّرت تلك الدول فلا بدّ لها من مواصلة خطوات التطوير والتنمية المستدامة، وهذا يتطلب طبعاً تحديد الأنموذج الذي يخدم تحقيق التنمية في كل دولة كيلا تقع في خطأ الفشل والإفلاس عبر المبالغة في الإنفاق على قطاع قد لا يخدم أهداف التنمية فيها كقطاع البنية التحتية.
إن العالم كله أصبح أمام خطر كبير متمثل في أن الإدارة الأمريكية تعمل على التضييق على الاقتصاد الصيني بهدف تطويقه، رغم أنه بحاجة كل الدعم للتعافي من أزمة كورونا وتحقيق المزيد من النمو، وفي حال توقف الصين عن مواصلة مشاريع التنمية ضمن مبادرة الحزام والطريق لن يكون هناك بديل بما في ذلك الولايات المتحدة التي ادعت كثيراً أنها ستمول أو تنفذ مع مجموعة السبع الكبرى مبادرات عالمية دون قدرتها على ذلك، فهي لا تمتلك الطاقات والخبرات اللازمة للقيام بذات الدور الذي تلعبه شركات البنى التحتية الصينية، فضلاً عن تمثيل الصين لـ 50% من قطاع التوربينات الريحية و 70% من قطاع الألواح الكهرضوئية على مستوى العالم، وغيرها من شركات الاتصال العملاقة وشبكات الجيل الخامس، اللازمة لتحقيق المبادرات الكبرى العالمية.
بالنهاية فإن المشروع الأمريكي يحمل بصمات وتوجهات مغايرة تماماً للمشروع الصيني، وهذا ما يبرر العلاقات الثنائية المتذبذبة بينهما، رغم ميل الصين نحو التفاوض مع أمريكا وإعادة جذب الاستثمارات ورجال الأعمال إليها لتحقيق المزيد من التنمية لها ولجميع دول العالم، لكن وللأسف تصرّ الولايات المتحدة على تجديد الخلافات مع الصين على مسائل متعدّدة كالشرق الأوسط وبحر الصين الجنوبي والحرب الأوكرانية، و”الديمقراطية” واضعةً الأولويات الأمنية بوصلة لمشروعها، في حين تصرّ الصين على أولوية توحيد العالم في تحقيق التنمية الاقتصادية كطريق لتحقيق السلم الدولي، ما قد ينذر ببرود العلاقات بين الدولتين مهما شاهدنا من مفاوضات ولقاءات عالية المستوى.