وجود بنية أكاديمية مقبولة يقابلها غياب إستراتيجية تحول رقمي متكاملة للتعليم.. تقرير مشترك لهيئة البحث العلمي و”الإسكوا” الاقتصاد السوري لا يزال قادراً على الإنتاج
البعث الأسبوعية – حسن النابلسي
ورد في البرنامج الوطني التنموي لسورية في ما بعد الحرب أنه “وبعد سنوات من الآثار التي خلفتها الحرب على سورية والأزمة التي نجمت عنها، وطالت مختلف مكونات التنمية، وأدت إلى تدمير البنى التحتية والممتلكات العامة والخاصة وحتى القدرات البشرية، لا يزال الاقتصاد السوري – حسب التقرير الذي أعدته الهيئة العليا بالتعاون مع اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)- تحت عنوان “خارطة الطريق للاقتصاد المبني على المعرفة في الجمهورية العربية السورية”- قادرا على الإنتاج، ولا تزال مؤسسات الدولة متواجدة، وأنه ليس ثمة وصفة نظرية وخطة جاهزة، لكن وفي بيئة ديناميكية متحركة، كما هو واقع الحال في سورية اليوم، يكون أثر الخطط والقوالب التخطيطية الجامدة محدوداً جداً، وهذا ما يقتضي اتباع نماذج تخطيطية أكثر إبداعاً وديناميكية، أي التفكير بإجراءات التخطيط والتنفيذ في بيئة واقعية ديناميكية متحركة، مع الأخذ في الحسبان الثغرات الناتجة عن أي أحداث غير متوقعة تقع أثناء إجراءات تنفيذ الخطط.
أخفض التقييمات
من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الوضع السوري حالياً على أنه نتاج لعشر سنوات من الحرب والتدمير الممنهج للبنى التحتية، تلاها حوالي عام ونصف من الحصار الخانق، وهو ما جعل سورية تحصل على أخفض التقييمات في سلم المؤشرات العالمية المرتبطة بالمعرفة وبالاقتصاد القائم على المعرفة ومرتكزاته.
إلا أن هذه التقييمات المتدنية، والمؤشرات ذات القيمة المنخفضة تشير أيضاً – حسب التقرير- إلى وجود كمون كمي ونوعي كبير قادر على قلب المعادلة، والانطلاق في عملية تنموية شرط اتباع نماذج تخطيطية ديناميكية ومرنة، والخروج من آليات العمل الجامدة والمتقادمة، واتباع نهج أكثر فعالية يستند في أساسه إلى الواقع السوري، لكن يحتذي بتجارب دول أخرى مرت بنفس الظروف ثم تجاوزتها في عملية التنمية الشاملة.
آلية واضحة
يوفر اليوم مؤشر المعرفة العالمي آلية واضحة لبيان وضع سورية في مختلف المؤشرات القطاعية التي تشكله، ويبين وضع سورية بين عامي 2017 و،2020 ضمن المنظومة الاقتصادية والتكنولوجية والمعرفية المعولمة، حيث يشير إلى وضع سورية بقيم مؤشرات أخفض في مجملها من المتوسط العالمي، مع اقترابها النسبي من هذا المتوسط في مؤشرات التعليم التقني والتدريب المهني، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبحث والتطوير، والاقتصاد، والتعليم العالي، في حين يلاحظ ابتعادها الكبير عن المتوسط العالمي في التعليم ما قبل الجامعي وفي البيئة التمكينية، وقد جرى حساب هذه القيم إلى قياس المؤشرات القطاعية المرتبطة بمؤشر المعرفة العالمي في 138 دولة عام 2020، و136 دولة عام 2019، و 134 دولة عام 2018، و 131 دولة عام 2017، كما يظهر موقع سورية بشكل واضح في الترتيب العالمي.
من الدرجة الثانية ولكن!
وأشار التقرير أنه بالنسبة للتعليم التقني والتدريب المهني، وعلى الرغم من ثقافة المجتمع التي تنظر إلى هذا النمط من التعليم على أنه تعليم من الدرجة الثانية، يتوفر في سورية سوق عمل مهم لخريجيه، حيث استطاع سوق العمل وعبر سنوات طويلة استقطاب عدد مقبول من خريجي المدارس المهنية والمعاهد التقنية –على الرغم من الثقافة الاجتماعية غير المشجعة- وتأمين فرص عمل لهم مثل خريجي المعاهد التقانية المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وخريجي معاهد التعويضات السنية وخريجي مدارس التمريض التي تتكفل الدولة بطالبها، وهو ما جعل من نسبة التحاق الطالب بثانويات مهنية مقبول نسبياً حيث تحتل سورية المرتبة 69 على 138 دولة في عام 2020، كما أن الضوابط المخففة على شروط التعليم في المدارس المهنية، وتوفر عدد كبير من المهنيين القادرين على التدريس فيها، ساعد في تأمين شريحة واسعة من أساتذة الثانويات المهنية بمستويات مقبولة، وجعل متوسط عدد الطلبة لكل معلم في التعليم الثانوي المهني في مستويات جيدة جداً حيث تحتل سورية المرتبة 19 على 138 دولة في هذا المؤشر الفرعي عام2020.
تشريعات سيبرانية
أما بالنسبة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بين التقرير أنه من الواضح أن الجهود التي بذلتها وزارة الاتصالات والتقانة عبر عقدين من الزمن باتجاه وضع تشريعات سيبرانية شبه متكاملة، وإحداث هيئات متخصصة كالهيئة الناظمة للاتصالات وهيئة خدمات الشبكة، إضافة إلى تحويل المؤسسة العامة للاتصالات إلى شركة تعمل بنظام الشركات لإعطائها مرونة كافية، ودعم البنية التحتية الشبكية، وإطلاق مشاريع لتحسين النفاذ باستخدام الحزمة العريضة، إضافة إلى توفر شركات اتصالات خلوية ذات مستوى مهني عال، فكلها عوامل أسهمت في اقتراب موقع سورية من المتوسط العالمي في هذا المؤشر.
مؤشرات فرعية
وتطرق التقرير إلى مؤشري التعليم العالي والبحث والابتكار، مبيناً أنه ووفقا لقيم مؤشراتها الفرعية تبدو المؤشرات الفرعية أفضل -على الرغم من الاعتقاد بأنها أفضل كمياً وليست بالضرورة نوعياً- في نسبة الالتحاق بالتعليم العالي من كلا الجنسين “المرتبة 96 على 138 دولة عام 2020″، ونسب خريجي مرحلة الدكتوراة من كلا الجنسين “المرتبة 30 على 138 دولة عام 2020، ونسب خريجي برامج العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات من كلا الجنسين “المرتبة 54 على 138 دولة عام 138″، ومتوسط عدد الباحثين في القوى العاملة لكل ألف فرد “المرتبة 79 على 138 دولة عام 2020″، مع غياب كامل لمعلومات واضحة عن حجم الإنفاق الفعلي على البحث العلمي، وهنا يشير التقرير إلى إمكانية الحصول على معلومات جزئية من جهات عديدة كصندوق البحث العلمي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أو ما تنفقه الجامعات من مواردها الذاتية على البحث العلمي، لكنها تبقى معلومات غير كاملة لغياب أي معلومات عن حجم الإنفاق على البحث العلمي في عدد من المراكز البحثية مثل مركز الدراسات والبحوث العلمية، وهيئة الطاقة الذرية وغيرها.
جيدة نسبياً
وفيما يتعلق بالتعليم ما قبل الجامعي، يبين التقرير أنه وعلى الرغم من احتلال سورية لمراتب جيدة نسبياً في مستوى الإنفاق على التعليم ما قبل الجامعي “المرتبة 15 في الإنفاق على التعليم الأساسي، والمرتبة 37 في الإنفاق على التعليم الثانوي على 138 عام 2020″، وامتلاك سورية لإرث كبير في محاربة الأمية وفي مجانية التعليم، إلا أن هذا المؤشر يتأثر كثيراً بتراجع رأس المال المعرفي الناجم عن تراجع مؤشرات الالتحاق الإجمالي بالمدارس، مثل مؤشرات الالتحاق ببرامج الطفولة المبكرة “المرتبة 123 على 138 دولة عام 2020″، أو ببرامج التعليم الأساسي “المرتبة 135 على 138 دولة عام 2020″، بالإضافة إلى تراجع مؤشرات الإتمام الدراسي “المرتبة 128 على 138 دولة عام 2020″، وهو أمر طبيعي في مجتمعات ما بعد الحرب حيث يغلب على هذه المجتمعات الفقر، وانتشار عمالة الصغار، وضعف الاهتمام بالتعليم مقارنة بالحاجات الإنسانية الأساسية الأخرى.
مرتبة أخيرة
بالنسبة للبيئة التمكينية، تحتل سورية في هذا المؤشر المرتبة 130 على 138 دولة حيث تحتل المرتبة الأخيرة في عدد من المؤشرات الفرعية مثل فعالية الحكومة، والاستقرار السياسي، وجودة الإطار التنظيمي، والشفافية، مع الأمل بأن يسهم برنامج الإصلاح الإداري في سد مثل هذه الثغرات وتحسين الأداء وخصوصاً المؤسسات العامة.
مواطن قوة
ويظهر تحليل SWOT لوضع التعليم في سورية، أن مواطن القوة في هذا المجال تتمثل بالاهتمام الحكومي والرسمي بالتعليم، إذ تعد سورية من أكثر الدول التي قدمت نموذجاً نسبياً للتعليم المجاني المدرسي والجامعي، حيث مازال يتوفر فيها –وعلى الرغم من ظروف الحرب- التعليم المدرسي والجامعي المجاني والقادر على استيعاب جميع الطالب السوريين وخصوصاً في المرحلة الجامعية، إضافة إلى سياسة استيعاب ذات طابع اجتماعي أدت إلى ارتفاع أعداد الطالب الملتحقين بالإجازات الجامعية من إجمالي الشباب السوري.
ومن نقاط القوة وجود بنية أكاديمية مقبولة وواسعة الانتشار من كليات جامعية وكليات تطبيقية ومعاهد تقانية ومشاف جامعية منتشرة في مراكز المدن الكبرى “8 جامعات حكومية و23 جامعة خاصة، 3 كليات تطبيقية، 52 معهد تقاني، 3 معاهد عليا تابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، عدة معاهد عليا تابعة لوزارات مختلفة”، حيث تعتبر المشافي الجامعية التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والجامعات الحكومية من أفضل المشافي في سورية، وهي في مجملها بنية تسمح بالرهان على إمكانية تطويرها واستخدامها كركيزة للبناء عليها.
مواطن ضعف
في المقابل عرض التقرير نقاط الضعف وفق تحليل SWOT، والمتمثلة بغياب إستراتيجية تحول رقمي متكاملة للتعليم وخصوصاً في منظومة التعليم العالي، والاعتماد في التعليم قبل الجامعي على مبادرات ومشاريع متفرقة “مشروع المدارس الإلكترونية الذي بدأ يرى النور لكن بأسلوب غير منهجي وغير مدروس بعناية ولا يتوافق مع المعايير التي وضعتها الجامعة الافتراضية السورية لاعتمادية هذا النمط من التعليم.
كما أن المبادرات والمشاريع لا تأخذ بالاعتبار جميع مكونات التحول الرقمي وارتباطها بالنواحي الاجتماعية والثقافية واللوجستية والتقانية.
ومن نقاط الضعف أن سياسة الاستيعاب الجامعي متبعة منذ الستينيات من القرن المنصرم. إلى جانب اعتماد سياسة رسمية تجعل من الجامعات الحكومية التي تمتلك الطاقة الاستيعابية الأساسية، جامعات غير متمايزة تتكرر فيها الكليات والمناهج بنسخ متطابقة، وهذا ما يحرم الجامعة من إمكانية التمايز عن غيرها والاستفادة من البيئة المحلية المتواجدة فيها ومن مكوناتها ومن حاجتها.