دراساتصحيفة البعث

بالتزامن مع ذكرى تأسيسه.. أول هزيمة كبرى للناتو

د.معن منيف سليمان

تتزامن الذكرى السادسة والسبعون لتأسيس حلف شمال الأطلسي “ناتو” مع أوّل هزيمة كبرى يتعرّض لها هذا الحلف منذ تأسيسه، خلال الحرب الباردة التي وقعت واشتدّت بين المعسكرين الغربي والشرقي، في محاولة لمجابهة الاتحاد السوفييتي السابق. وفي الرابع من شهر كانون الثاني لهذا العام يحتفل أعضاؤه بهذه الذكرى لتأسيس الحلف العسكري الأقوى في التاريخ، في ظلّ هزيمة مدوّية بعد سلسلة خسائر مُني بها الحلف في الحرب الأوكرانية بسبب سياسات غير محسوبة.

الناتو هو اختصار لعبارة حلف الشمال الأطلسي بالإنكليزية (North Atlantic Treaty Organization) ويُرمز له بالإنكليزية بالرمز (NATO). وجاءت فكرة إنشاء الحلف بعد نجاح الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت بإنشاء ستار حديدي منع تقارب الدول الأوروبية، وبات يفرض شبه حصار على بعض الدول.

ومع التوسّع السوفييتي اجتمعت فرنسا وهولندا وبلجيكا وإنكلترا ولكسمبورغ بمدينة بروكسل في بلجيكا، آذار من عام 1948، وأصدرت ميثاقاً يقضي بتحالفهم وتجميع قواتهم العسكرية لتحقيق مصالحهم المشتركة.

إلا أن هذه الدول لم تكن قادرة على مواجهة السوفييت وحدها دون مساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية، وحينها ظهرت فكرة انضمام الولايات المتحدة إلى حلف “الناتو”، وجرت مفاوضات ومناقشات عديدة انتهت بإعلان معاهدة حلف شمال الأطلسي. ووقعت المعاهدة  في شهر آذار عام 1949، وتم الاتفاق على أن تصبح بروكسل مقرّاً له.

وبعد مرور أربع سنوات على إنشاء الحلف تداعت الدول الأوروبية للانضمام إليه حتى وصل عدد أعضائه إلى 29 دولة جاهزة لتقديم الدعم الدفاعي بكامل تجهيزاتها العسكرية.

واليوم، يضمّ حلف شمال الأطلسي 31 عضواً (ولكن عندما تنضمّ السويد، سيكون العدد 32 عضواً) وأكثر من 30 دولة شريكة في مختلف أنحاء العالم. وقد توسّعت أجندته لتشمل قضايا تتجاوز الدفاع الإقليمي، مثل الأمن السيبراني ومكافحة الإرهاب.

وكان دور الحلف في بدايات التأسيس تولي مهمّة الدفاع عن أوروبا الغربية ضدّ الاتحاد السوفييتي والدول المشكّلة لحلف وارسو آنذاك في سياق الحرب الباردة. وتساهم كل الدول الأعضاء في الحلف بنصيب من القوى والمعدّات العسكرية.

وتدخّلت قوات الناتو عسكرياً في أكثر من أزمة على مستوى العالم، وكان لتدخلها أمر الحسم وأصبحت صاحبة الكلمة العليا في تلك الأزمات.

ومن بين هذه الأزمات حرب البوسنة والهرسك، وأزمة كوسوفو، والحرب على الإرهاب في أفغانستان، والتدخل لحل الأزمة الليبية في 2011، كما أرسلت قوّات إلى مقدونيا في مهمّة حفظ السلام عام 2001.

ولكن الحرب الأوكرانية جاءت لتضع حدّاً لانتصارات “الناتو” وتوسعاته الإمبريالية على حساب القوى الأخرى، وتتحوّل إلى تراجع إمبريالي وسقوط في نهاية المطاف. لقد تجاهل “الناتو” الهواجس الأمنية المشروعة لروسيا، ولم يأخذ بالحسبان أيضاً حقيقة أن هناك أقلية ضئيلة جدّاً بين الشعب الأوكراني تؤيّد العضوية في “الناتو”، بل كان هدف قادته محصوراً في تغيير النظام في كييف وتنصيب قيادة مؤيّدة للغرب، ودفع أجور جيدة لها، ومنحها عرضاً لا يمكنها رفضه من خلال اجتذابها خطوة بخطوة للانضمام إلى التحالف الآخذ في التوسّع. وهكذا اضطرّت روسيا لخوض الحرب دفاعاً عن أمنها القومي.

بدأت الحرب في 24 شباط 2022، وكانت وقائع المعارك في البدايات مشجّعة للغرب الذي قدّم لأوكرانيا مئات المليارات من الدولارات، ودفع إلى الميدان الحربي بعدد هائل من الأسلحة الحديثة والمتطوّرة، والغاية المعلنة، هي استنزاف روسيا وربما تفكيكها، مع فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة عالمياً، حيث بلغ عددها نحو 15 ألف عقوبة، بينما بدت القوّات الروسية على الأرض مأزومة، كانت توالت تراجعاتها من حول العاصمة الأوكرانية كييف في الأسابيع الأولى للحرب، حتى إن الضربة المفاجئة كانت لـ”لناتو” من وراء القناع الأوكراني، هي التي أجبرت روسيا على الانسحاب من شرقي مقاطعة خاركيف.

كان الروس ينهزمون في الجولات الأولى، ثم يكون النصر لهم في الدور النهائي، فتمكّنت القوات الروسية من صدّ “الهجوم المضاد” الأوكراني، على الرغم من الدعم المالي والعسكري الكبير، الذي قدّمه حلف “الناتو” وعدد من الدول الغربية والمتحالفة مع واشنطن، لنظام كييف. وبعد ذلك لم يعُد أحد يجادل في حقائق هزيمة الغرب في الميدان الأوكراني، والإخفاق الذريع لما سمّي الهجوم المضاد، والهزيمة الكاملة لواشنطن وأخواتها، وانقلاب الموازين لمصلحة روسيا والرئيس فلاديمير بوتين. فقد دمّر الجيش الروسي أكثر من 747 دبابة و2300 مركبة مدرّعة، منذ بداية “الهجوم المضاد”.

وكان للناتو مشاركة فعلية في الميدان، وقد شارك جنوده على الأرض إلى جانب الجنود الأوكرانيين، وكان عناصر عسكريون من “الناتو” يقومون بتشغيل أنظمة أسلحة معيّنة، كما أن مئات من الأقمار الصناعية التابعة للكتلة العسكرية بقيادة الولايات المتحدة توفّر بيانات المراقبة لكييف.

وعندما أعلنت روسيا وقتها عن دحر الهجوم المضاد، كانت دوائر الغرب لا تزال تكتم الاعتراف، وتتحدّث عن تعثّر الهجوم المضاد لا عن إخفاق وهزيمة كبرى. واليوم تغيّرت الصورة، واعترف مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق، “ستيفن برين”، بأن استسلام أوكرانيا سيكون أوّل هزيمة كبرى لحلف شمال الأطلسي “ناتو” منذ تأسيس الحلف.

وكان “ينس ستولتنبرغ” أمين عام حلف شمال الأطلسي أقرّ بالهزيمة عندما قال في كلمات مريرة: “علينا أن ننتظر أخباراً سيئة” تأتي من أوكرانيا، وقد عاجلتهم الأخبار الأسوأ، فقد انتهى الهجوم المضاد تماماً، وكان قد بدأ أوائل حَزِيران 2023، بعد تدرّج في تسمياته المتلكئة، من هجوم الربيع إلى هجوم الصيف، مصحوباً بأمانٍ غربية روّجت لدحر الجيش الروسي.

لقد شارفت قدرة كييف على النفاد على صعيد التعبئة والتجنيد، وأرهق “الناتو” عسكرياً وعانت عواصم دوله من تبعات الحرب اقتصادياً، ولم يعُد بمقدور واشنطن دفع المزيد من مئات مليارات الدولارات، وقد ذهب زيلينسكي إلى واشنطن قبل ثلاثة أسابيع، وكان يطمع في الحصول على تمويل إضافي سخي يفوق الستين مليار دولار، واكتفى الرئيس الأمريكي بايدن بمنح أوكرانيا فتاتاً عسكرياً بقيمة 200 مليون دولار لا غير.

وهكذا تحوّلت أوكرانيا وحربها إلى ميدان استنزاف للغرب وهزيمة كبرى مُني بها حلف “الناتو” لأول مرّة في تاريخه. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية في الغرب، ربما يتجه “الناتو”، نحو السيناريو الأسوأ في العقد المقبل الذي سوف يشهد تفتّت منظمة حلف “الناتو” واحتمال تفكّكها.