دراساتصحيفة البعث

“ترانسفير” تحت عنوان “هجرة طوعية”.. والإبادة الجماعية أداة التنفيذ!

عناية ناصر

بدلاً من أصوات الألعاب النارية التي تُطلق احتفالاً بقدوم العام الجديد، ظل سكان غزة، الذين أصابهم الخوف، مستيقظين على دوي القنابل التي تسقط عليهم من السماء في تذكير للفلسطينيين بسياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قال في اليوم السابق: لا توجد نهاية تلوح في الأفق للقصف، وأكّد أنه سيستمر “لعدة أشهر أخرى” قادمة.

لقد عرف الفلسطينيون منذ البداية أن الهدف الحقيقي للهجوم “الإسرائيلي” المروّع والوحشي على غزة هو إفراغ القطاع من كل الفلسطينيين وعودة المستوطنات اليهودية. فبعد ما يقرب من 90 يوماً من القصف المتواصل والجهود الباهتة من جانب الحكومة “الإسرائيلية” للتفاوض من أجل إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم المقاومة الفلسطينية، أصبح من الواضح حتى “للإسرائيليين” أن أهداف نتنياهو المعلنة وهي “تفكيك المقاومة الفلسطينية، وإعادة الرهائن، وضمان عدم وجود من يهدّد “إسرائيل” في غزة”، ما هي إلا غطاء لخطة “الترانسفير” الحكومية.

لقد بدأت المرحلة الأولى من الخطة بالقصف الشامل لشمال غزة وإصدار أمر إخلاء يطلب من الفلسطينيين مغادرة المنطقة، التي تعدّ واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، والانتقال إلى جنوب غزة “حيث سيكونون أكثر أماناً”. ولكن ما إن وصلوا إلى جنوب غزة حتى بدأت القنابل تنهمر عليهم مرة أخرى، في بيت لاهيا، وخان يونس، والمغازي، وغيرها من الأحياء السكنية المكتظة بالسكان. ونتيجة لهذا القصف لم يعُد هناك مكان آمن في غزة؛ ولا مكان للاختباء من القنابل التي زوّدت بها الولايات المتحدة “إسرائيل” والتي تزن 2000 رطل. وأصبح  سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة محصورين الآن في سجن أصغر وأكثر اكتظاظاً في الهواء الطلق، تبلغ مساحته ثلث حجم السجن السابق.

يتم الآن الترويج لـ”الترحيل”، أو “الهجرة الطوعية” كما يسمّيها بعض المسؤولين الإسرائيليين، باعتباره الحل الإنساني لشعب غزة الذي يسكن الآن قطعة أرض أصبحت غير صالحة للعيش على الإطلاق، وفاءً بالوعد، حيث قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: “إننا نحارب حيواناتٍ بشرية، ونتصرّف وفقاً لذلك.. وسوف نقضي على كل شيء، وسوف يندمون على ذلك”، كما قال اللواء المتقاعد جيورا إيلاند لوسائل الإعلام “الإسرائيلية”: “إن خلق أزمة إنسانية حادة في غزة هو وسيلة ضرورية لتحقيق الهدف، حيث ستصبح غزة مكاناً لا يمكن أن يوجد فيه أي إنسان”.

بعد عودته من زيارة قام بها مؤخراً إلى قطاع غزة المحاصر، قال المفوّض العام للأونروا فيليب لازاريني أمام المنتدى العالمي للاجئين في منتصف شهر كانون الأول: “إن الوقت والخيارات ينفدان من سكان غزة، في الوقت الذي يواجهون فيه القصف والحرمان والعنف والمرض في مساحة تتقلص باستمرار”، كما دعا المفوّض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي خلال حديثه في المنتدى، إلى وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء الحصار للسماح بوصول المساعدات الكافية. وقال غراندي: “لديّ شعور بأن غزة لم تعُد مكاناً صالحاً للسكن بعد الآن”.

وفي افتتاحية رئيسية في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية اليومية، نُقل عن عضو الكنيست داني دانون قوله: “يتعيّن علينا أن نسهّل على سكان غزة المغادرة إلى بلدان أخرى.. أنا أتحدّث عن الهجرة الطوعية للفلسطينيين”. وأضاف: إنه يعتقد أن “من واجب الدول العربية مساعدة الفلسطينيين. يجب أن يتمتعوا باللياقة للمساعدة بدلاً من إلقاء الخطب التحريضية”. ومن بين المسؤولين “الإسرائيليين” الآخرين الذين وجّهوا دعواتٍ علنية لدعم فكرة “الترانسفير”، عضو الكنيست رام بن باراك الذي نشر مقال رأي في صحيفة “وول ستريت جورنال”، ووزيرة المخابرات جيلا جمليئيل التي كتبت مقال رأي في صحيفة “جيروزاليم بوست” بهذا الخصوص، وحتى نتنياهو قال خلال اجتماع لأعضاء الكنيست من حزب الليكود: إن “مشكلتنا هي الدول التي ترغب في استيعابهم، ونحن نعمل على ذلك”.

وقالت باولا جافيريا بيتانكو، المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان للنازحين داخلياً: إن “إسرائيل” “تعمل على طرد” السكان المدنيين في غزة، وأضافت بيتانكو: إن الاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة تهدف إلى ترحيل أغلبية السكان المدنيين في غزة بشكل جماعي.

يتم الآن البحث في غزة لمعرفة من سيقوم باستيعابهم، فوفقاً لأخبار “القناة 12” “الإسرائيلية” ولمقال نُشر بتاريخ 31 كانون الأول في صحيفة “جيروزاليم بوست”، التقى رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير مع نتنياهو ووزير الحرب بيني غانتس لمناقشة دور بلير في إيجاد دول لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين من غزة. وبينما نفى بلير هذا التقرير، وكتب في ردّه أن هذه الادّعاءات “غير صحيحة”، نشر ما يسمّى وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بياناً مؤخراً، رحّب فيه بالتقارير التي تفيد بأن بلير “يرأس فريق عمل من شأنه تشجيع هجرة سكان غزة إلى دول أخرى حول العالم”.

كيف يمكن لأي شخص في العالم أن يدّعي أن الفلسطينيين الذين يفرّون للنجاة بحياتهم يفعلون ذلك “طواعية” بعد أن هُدمت منازلهم، وسوّيت أحياؤهم بالأرض، وشوّه أطفالهم أو قُتلوا، وتُركوا ليموتوا دون طعام أو ماء أو كهرباء أو مساعدة طبية؟. ولماذا يظل الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن صامتين في مواجهة هذا القتل الجماعي المستمر وأحاديث “الترانسفير” الشنيعة هذه؟ ألم يزعم بايدن مراراً وتكراراً أنه يعارض “التهجير القسري” ويدعم “حل الدولتين؟!.

لن يدين بايدن “الترانسفير” لأن الولايات المتحدة تموّله، وبذلك لا يمكن إنكار تورّط الولايات المتحدة في الإبادة الجماعية، فكل طائرة استخدمت وكل قنبلة أسقطت على المدنيين الفلسطينيين يتم دفع ثمنها جزئياً على الأقل من دافعي الضرائب الأمريكيين، كما استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي دعا إلى وقف إطلاق النار.

تقف الولايات المتحدة و”إسرائيل” الآن معزولتين بين دول العالم، فماذا سيفعل بايدن الآن؟ هل سيسمح بعملية “ترانسقير” التي يشاهدها بأم عينيه؟ ألا يستطيع أن يرى أن الغارات المكثفة على الفلسطينيين في الضفة الغربية هي أيضاً جزء من استراتيجية “الترانسفير” الإسرائيلية، حيث يتعرّض فلسطينيو الضفة الغربية للإرهاب والمضايقات اليومية من جنود الكيان والمستوطنين المسلحين لإجبارهم على المغادرة؟ هل يعتقد بايدن حقاً أن هذا سينهي المقاومة الفلسطينية أو يجعل “الإسرائيليين” أكثر أماناً؟ أم أنه، باعتباره أكبر متلقّ للتبرعات الانتخابية للجنة الشؤون العامة الأمريكية “الإسرائيلية” منذ عام 1990، ملزم بالقيام بما تطلبه “إسرائيل” دون أية مشكلة؟.

وبينما سمح بلينكن للتوّ ببيع ذخائر مدفعية شديدة الانفجار عيار 155 ملم للكيان “الإسرائيلي” بقيمة 147.5 مليون دولار من خلال تجاوز مراجعة الكونغرس، فإن الملايين حول العالم ينتفضون لدعم الفلسطينيين ويطالبون بوقف فوري لإطلاق النار وإنهاء الإبادة الجماعية. وفي تعبير غير عادي عن التضامن مع الفلسطينيين، رفضت جيبوتي المشاركة في التحالف البحري الذي تقوده الولايات المتحدة في عملية “حارس الازدهار” في البحر الأحمر، التي تهدف إلى إحباط العمليات اليمنية ضد السفن المرتبطة بـ”إسرائيل” التي تعبر الطريق البحري الحيوي.

وأكد وزير خارجية جيبوتي محمود علي يوسف أن بلاده لا تدين الهجمات التي تنطلق من صنعاء في البحر الأحمر وباب المندب، معتبراً إياها “إغاثة مشروعة للفلسطينيين”. وختم يوسف بالقول: “إذا لم تجد فلسطين الإغاثة في مكان آخر، فلن تتردّد اليمن في إغاثة الفلسطينيين”.

واتخذت جنوب إفريقيا موقفا مبدئياً من خلال تقديم طلب لإقامة دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وهي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، فيما يتعلق بالانتهاكات من جانب “إسرائيل” لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جرائم القتل والمعاقبة عليها. وحسب الطلب فإن “الأفعال والانتهاكات من جانب إسرائيل، تتسم بطابع الإبادة الجماعية”، لأنها تُرتكب بقصد محدّد مطلوب، “لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من المجموعة الوطنية والإثنية الفلسطينية الأوسع”، وأن “سلوك “إسرائيل” فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة، يعدّ انتهاكاً لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية”.

سيتم تذكر عام 2023 بوصفه العام الذي مكّنت فيه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي “إسرائيل” من التطهير العرقي لشعب ومشاهدة رعب الإبادة الجماعية لحظة وقوعها. سوف يُسجّل في التاريخ باعتباره العام الذي شهد فيه شعوب العالم القتل الجماعي، والدمار الشامل، والمجاعة الجماعية، والقمع الجماعي، والتجريد الجماعي للفلسطينيين من إنسانيتهم، فضلاً عن الاحتجاجات العامة الجماعية والدعم للفلسطينيين.