العجز في الموازنة العامة بات ظاهرة مزمنة.. وشكوك حيال فعالية السياسة المالية العامة للدولة!
دمشق – حسن النابلسي
من أكثر الباحثين الاقتصاديين الذين تحدثوا في المالية العامة ودورها الاقتصادي الكلي هو جون مينارد كينز، الذي ناقض نظرية آدم سميث “السوق ينظم نفسه” (بعد أزمة 1929)، إذ ركّز كينز على الدور التدخلي للدولة باستخدام أدوات السياسة النقدية والمالية، وبالتالي أصبح الجدل محسوماً حول أهمية السياسة المالية العامة في حل المشكلات التي قد يواجهها اقتصاد الدولة، وفي تحقيق أهدافه، لاسيما في مجال إدارة الادخار، وتوفير فرص العمل والتوظيف، والتحكم بالإنتاج والاستهلاك، والتأثير على المستوى العام للأسعار، وتوجيه التجارة الخارجية..إ لخ.
معيار أساسي
ويوضح الباحث الاقتصادي إيهاب اسمندر أن السياسة المالية للدولة هي ﻓﺮع ﻣﻦ ﻓـﺮوع اﻻﻗﺘﺼﺎد يقوم على تخصيص الموارد اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ بالصورة التي تجعلها كفيلة بتحقيق الأهداف الكلية، فالسياسة المالية هي المعيار الأساسي لدور الدولة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وتستخدم كأداة لتشجيع الاستثمار في بعض المجالات الاقتصادية ولتقليله في مجالات أخرى، وبالتالي يجب أن تعكس السياسة المالية التوجه الاقتصادي للدولة وتنسجم معه، وهي أهم مكونات السياسة الاقتصادية للتأثير في النشاط الاقتصادي، كما أن الموازنة العامة للدولة باعتبارها “خطة الدولة المالية” هي المعبر عن سياستها المالية، وأن الغرض الأساسي للسياسة المالية العامة تأمين الموارد المالية التي تحتاجها الدولة.
عجز
تأثرت السياسة المالية العامة في سورية في السنوات الأخيرة سلباً نتيجة الأزمة التي عاشتها، وتمثل ذلك بعجز كبير وصل إلى أكثر من 22% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، وتراجع المؤشرات الاقتصادية كمعدل النمو الاقتصادي إلى 11% وسطي خلال الفترة 2010 – 2021، وارتفاع مستوى البطالة إلى حوالي 25 – 30%، وذلك بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء، إضافة إلى عجز الميزان التجاري حوالي 2 مليار دولار في عام 2021، وتراجع مستوى الرفاهية والأجور، مما جعل البعض يشكك في فعالية السياسة المالية العامة للدولة.
وإذا ما أضاءنا على موازنة 2024، نجد أنها تبلغ بشقيها الجاري والاستثماري 35.5 ألف مليار ليرة سورية، وأنها تزيد بحوالي 114% عن موازنة 2023 البالغة (16.6 ألف مليار ليرة سورية)، وأن الإنفاق الجاري فيها يشكل (26.5 ألف مليار ليرة سورية) أي 75% من الموازنة، لكنه أقل مما كان عليه في موازنة 2023 والذي كان نسبته /81%/، وبالتالي فإن تقليل نسبته قد يعني تراجع بالتزامات الدولة تجاه الدعم الاجتماعي وتحسين مستوى معيشة العاملين.
نتائج
مما سبق استنتج اسمندر، أن الزيادات على الموازنة العامة السورية في السنوات الأخيرة اسمية وليست حقيقية، وأن الزيادة في الموازنة لا تعكس معدل التضخم في أرض الواقع وقد يكون ذلك بسبب عدم الرغبة بزيادة نسبة العجز من الموازنة، وهناك محاولة لتخفيضه ولو بصورة محدودة من حوالي 29% في موازنة 2023 إلى حوالي27% في موازنة 2024، وهذا بدوره ينعكس إيجاباً على تقليل معدل التضخم (لكن بصورة محدودة وهذا قد يقلل أهميته).
كما أنه يستنتج أن العجز في الموازنة العامة السورية ظاهرة مزمنة مما يجعله خطيراً، إضافة إلى أن هناك اعتماد واضح على التضخم في تمويل الموازنة العامة في سورية، كما أن زيادة الإيرادات في الموازنة مرتبطة برفع الرسوم الضرائب وقيمة بدل معظم الخدمات الحكومية.
وأشار اسمندر إلى بعض الظروف التي أثرت على تراجع الإيرادات العامة في سورية، مثل العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية على البلاد، وتعطل قسم كبير من المشروعات الصناعية والزراعية والسياحية بسبب ظروف الحرب (40% منها متوقف)، مما قلل ضرائبها لصالح الخزينة، وتراجع أرباح القطاع العام الاقتصادي.
أمام هذا الواقع اقترح اسمندر استعادة الدور الفعال للمالية العامة في تحقيق الأهداف الاقتصادية الكلية، وزيادة الإيرادات الحكومية من خلال نظام ضريبي عادل ومتطور، وإدخال الضريبة على القيمة المضافة، إضافة إلى تقليل الإنفاق الكمالي وغير المنتج، وعدم الاعتماد على التمويل بالعجز، بل زيادة دعم المشروعات الاستثمارية ذات العائد المضمون، واتباع سياسة اقتصادية أكثر انفتاحاً، إلى جانب إعادة النظر بسياسة الدعم الاجتماعي ليكون أكثر جدوى، وزيادة الاعتماد على التكنولوجيا الموفرة للموارد، وزيادة دور الخبراء والاختصاصيين في دراسة وتطوير المالية العامة في سورية.