دراساتصحيفة البعث

أوروبا وعبء الولايات المتحدة الثقيل

عناية ناصر

إن الجولة الأخيرة من المجازر الإسرائيلية المرتكبة ضد الفلسطينيين في غزة، سوف تستمرّ بعض الوقت وتنتهي بمأساة أخرى للفلسطينيين. ولكن على المدى الطويل، ستؤدّي كل هذه الأحداث إلى نتائج سلبية هائلة ستشهدها شعوب الشرق الأوسط كافة، بما في ذلك “الإسرائيليون”، لفترة طويلة. ووفقاً لما نشرته الصحيفة الإيرانية “طهران تايمز” لن يستفيد أيّ من الأطراف في العالم من الكارثة، حيث ستدفع الدول الأوروبية بشكل خاص ثمناً أعلى للصراع المستمر. وعلى الرغم من أن قادة الدول الأوروبية يدركون جيداً الطبيعة الخاطئة للسياسة الأمريكية الحالية، إلا أنهم، مثل الدمى الأمريكية، مجبرون على اتباع مسار واشنطن بشكل أعمى ودون قيد أو شرط.

ويظهر التاريخ أن هناك حالاتٍ عديدة دفعت فيها الدول الأوروبية ثمن أخطاء السياسة الأمريكية على مدى العقدين الماضيين. ولعل أحد الأمثلة الصارخة على ذلك هو السياسة الخاطئة التي تنتهجها أوروبا في التعامل مع قضية التطوير النووي السلمي في إيران، حيث كانت الدول الأوروبية حتى عام 2012، من أهم شركاء إيران الاقتصاديين، إن لم يكن الأكبر، وكانت إيران سوقاً مهمّاً جداً للمنتجات الأوروبية.وكان يفضّل الإيرانيون الإلكترونيات والسيارات الألمانية على المنتجات المماثلة من أماكن أخرى. ولكن بسبب العقوبات الأمريكية غير القانونية ضد إيران، انسحبت الشركات الأوروبية من السوق الإيرانية ودفعت في النهاية ثمناً باهظاً لخسارة سوق إيرانية واعدة ومربحة للغاية. واليوم، أصبح الوجود الاقتصادي للدول الأوروبية وشركاتها في إيران شبه معدوم.

والمثال الثاني قد يكون التدخل الوقح والفج للولايات المتحدة في الشؤون الداخلية للشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين. لقد ظل الشرق الأوسط  مستقراً بشكل عام في التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولذلك، كانت الدول الأوروبية طموحة للغاية في تعزيز التكامل الاقتصادي مع جيرانها في الشرق الأوسط، لأن الوضع الأمني كان مقبولاً. وكانت الشراكة الأوروبية- المتوسطية أو (عملية برشلونة) التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في التسعينيات بمنزلة برنامج لتكامل أوروبا وجيرانها على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط. لكن العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين شهدا تدخل الولايات المتحدة عسكرياً في كثير من الأحيان في الشؤون الداخلية لعدد من دول الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق وأفغانستان وليبيا وسورية. ونتيجة للأعمال العسكرية المستمرة، تشهد دول وشعوب الشرق الأوسط اضطراباتٍ إقليمية هائلة منذ أكثر من عقدين من الزمن، وتعدّ هذه المنطقة بكل المقاييس الأكثر اضطراباً في العالم.

من الطبيعي أن يكون لدى العديد من اللاعبين الإقليميين وغير الإقليميين خلافات مختلفة مع الولايات المتحدة في المجالات الاستراتيجية والأيديولوجية والسياسية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن الدول الأوروبية هي التي تضرّرت بشكل خطير من عدم الاستقرار، لأنها الجار المباشر للشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك أدّى تدفق اللاجئين إلى زيادة العبء الاقتصادي والاجتماعي وتسبّب في انقسامات على المستوى المحلي وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي.

والمثال الثالث هو العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث أدّت الحرب، والمذبحة التي ترتكبها “إسرائيل” بشكل يومي في قطاع غزة، إلى كارثة إنسانية خطيرة للغاية، وقُتل حتى الآن أكثر من 20 ألف فلسطيني، حوالي ثلثيهم من النساء والأطفال، وشرّد أكثر من مليوني شخص وأصبحوا بلا مأوى. وإذا استمرّت الحرب، فستكون هناك كارثة إنسانية أكثر خطورة لكل من الفلسطينيين والشعوب الأخرى في المنطقة. ومن المرجّح أن يصل المزيد من اللاجئين إلى الدول الأوروبية، الأمر الذي سيضيف صعوباتٍ جديدة إلى اقتصاداتها. وبينما يذهب بعض السياسيين الأوروبيين إلى “إسرائيل” لإظهار دعمهم لسياساتها، سيصبح كثيرون في هذه البلدان غير راضين بشكل متزايد عن مسار السياسيين. وسوف تنشأ انقسامات جديدة داخل الاتحاد الأوروبي، حيث إن بعض الدول لا تشاطر أولئك الذين يدعمون سياسة “إسرائيل” غير الحكيمة الرامية إلى القضاء على الفلسطينيين في قطاع غزة.

وبشكل عام، بات معروفاً من خلال التاريخ أن الولايات المتحدة كانت ترتكب أخطاء في المنطقة، بينما ظلت الدول الأوروبية تدفع ثمنها باهظاً. ثم هناك التساؤل حول ما إذا كان النخب في أوروبا يفهمون السيناريو والأساس المنطقي وراءه. والحقيقة أن المفاهيم السياسية المختلفة التي طرحتها أوروبا أشارت بما فيه الكفاية إلى أن الأوروبيين يدركون جيداً مشكلتهم المذكورة آنفاً، ولكنهم يستمرون في ارتكاب الأخطاء مراراً وتكراراً.

في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اقترح القادة الأوروبيون مفهوم “دبلوماسية التفاوض”، الذي، في رأيهم، يمكن أن يسمح لهم بتشكيل الشرق الأوسط من خلال نهج مختلف عن سياسة القوة التي تنتهجها الولايات المتحدة. وهكذا، في عام 2003، عارض الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني غيرهارد شرودر محاولات الولايات المتحدة غزو العراق بوقاحة من خلال تزوير الوثائق وخداع المجتمع الدولي. وبمرور الوقت، ثبت أنهم على حق، على الرغم من فشلهم في وقف الحرب، أو بالأحرى المذبحة التي تعرّض لها السكان المدنيون في العراق. وفي العام نفسه، قام ثلاثة وزراء خارجية – فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة – بزيارة مشتركة إلى إيران لإيجاد حل لقضية التطوير النووي السلمي الإيراني من خلال دبلوماسيتهم، على عكس النهج الأمريكي بممارسة ضغط العقوبات الاقتصادية والعسكرية، وأثبتت جهود الثلاثي الأوروبي صحتها، رغم أنها فشلت في تغيير نهج العقوبات الأمريكية في حل المشكلة.

وفي عام 2010، اقترح الاتحاد الأوروبي مفهوماً مختلفاً للاستقلال الاستراتيجي، ويشير المصطلح نفسه إلى اعتزامه النأي بنفسه عن الولايات المتحدة وتقليل اعتماده على الأمريكيين في المسائل الأمنية. ولكن من المؤسف أن أوروبا لم تبذل خلال هذه الفترة الجهود الكافية لإظهار الجانب المستقل من سياستها، ما أدّى في النهاية إلى انتهاك مصالحها الاقتصادية والأمنية.

صحيح أن العلاقات الأطلسية مع أوروبا كانت مبنيّة على روابط ثقافية وتاريخية، ولم تتغيّر منذ فترة طويلة. ولكن من ناحية أخرى، الدول الأوروبية لديها مصالح مختلفة حقاً. إن الشرق الأوسط هو جارٌ مباشر لأوروبا، ولكنه بعيد كل البعد عن الولايات المتحدة، وأي شيء سيّئ يحدث في الشرق الأوسط من الممكن أن يؤثر سلباً في أوروبا. ومن الناحية المنطقية، من غير المعقول أن يدعم الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة دائماً في جميع خططها المحفوفة بالمخاطر.

علاوة على ذلك، من الواضح أن السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة حالياً في التعامل مع العدوان ، تعمل على تقويض العدالة، التي ينبغي أن تشكل أحد المبادئ الأساسية للنظام الدولي. إن استمرار مثل هذه الأزمة من شأنه أن يقوّض ليس صورة الولايات المتحدة فحسب، بل صورة أوروبا المجاورة للشرق الأوسط. وفي كل الأحوال، حان الوقت لكي يعمل الزعماء الأوروبيون على تطوير نهج معقول، يوازن بين العدالة والتزاماتها الأطلسية. وبخلاف ذلك فإن الأخطاء التي ارتكبت تحت ضغط من الولايات المتحدة يمكن أن تجبر أوروبا على دفع ثمن أكبر لا يمكن تحمله.