لماذا الحزب.. ضرورة وهدف؟
د. عبد اللطيف عمران
لا تزال الحياة الحزبية عماد التغيير والتطوير، بسبب عراقتها وإنجازاتها، ولا سيما عندنا إذ أسهمت في نجاح حركة التحرر والاستقلال الوطني العربية ضد الاستعمارين العثماني والغربي، ولهذا فالأحكام التالية لا تتعلق بحزب واحد دون غيره، بقدر ما تتعلق بالظاهرة الحزبية عامة، على أهمية ما تشهده الحياة الحزبية اليوم في حزب البعث العربي الاشتراكي في القطر السوري.
فلا أحد ينكر أن الأحزاب تتطلب إعادة هيكلة مستمرة وذلك وفق متطلبات التعامل مع متغيرات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بهدف ردم الفجوة بين أجيال الحزبيين، إذ تُجمع الأبحاث المعنية بدراسة الظاهرة الحزبية في العالم على أن أغلب الأحزاب تمرّ حالياً بعملية إعادة تشكيل مفصلية لم تتضح بعد مآلاتها المستقبلية.
وقد بدأ هذا التوجه يتقدّم ويعمّ مع نتائج العولمة منذ نهايات القرن الماضي بسبب تفتّت المجتمعات المعاصرة، وخاصة بعد تحوّل عدد كبير من الأحزاب في العالم إلى شبه وكالات حكومية، ما جعلها تواجه تحديات جرّاء عدم قدرتها على الاعتماد فقط على حضورها المجتمعي القوي (الجماهيري)، وكذلك على تلبية احتياجات المواطنين المتزايدة والمتطورة، بقدر اعتمادها على مساعدات الدولة. ما فرض طرح مسألة مصادر التمويل، ومسارب الإنفاق ليس على مؤسسات الحزب ونشاطاته فقط، بل في سبيل فوز ممثليه في الوصول إلى المؤسسات التنفيذية والتشريعية.. إلخ.
وبالمقابل، فقد اقتضى هذا الوصول أن يقوم بعض الحكام بتغيير جذري في الحياة الحزبية في بلاده، فيخترع حزبه الخاص الذي يقوم من خلاله بقيادة الدولة والمجتمع، على نحو ما فعل زين العابدين بن علي في تونس، والسادات ومبارك في مصر، ودينغ جياو بينغ في الصين، وبيرلسكوني في إيطاليا، وبوتين في روسيا الاتحادية، وأردوغان في تركيا، وماكرون في فرنسا… إلخ، وفي كثير من هذه الأحزاب بنى المؤسس أو المجدد حزبه أو حركته أو جماهيريته وفق التمحور حول شخصيته، بغض النظر عمّا إذا كانت، أو بقيت، هذه الأحزاب جماهيرية أو سلطوية، انتخابية أو إيديولوجية، المهم أنها فرضت حضورها الشعبي والمؤسساتي بـ (الانتخابات).
بكل الأحوال، فإن قسماً كبيراً من الأحزاب اليوم يعوّل على المجتمع الرقمي، وعلى الشبكات الاجتماعية ليوطّد حضوره تعويضاً عن افتقاره إلى التاريخ النضالي السياسي والاجتماعي، إذ أن التجديد في أساليب العمل الحزبي وفي منطلقاته بات ضرورة.
ومن جهة ثانية فإن قسماً آخر من الأحزاب التقليدية لايزال يحافظ، إلى حدّ ما، في استراتيجيته على البعد الإيديولوجي المستند في معظم مرجعياته وتوجهاته وأهدافه إلى تاريخ وتقاليد ومصالح ليست طارئة، بقدر ما هي ثوابت ومبادئ راسخة يضرّ التفريط بها بالمجتمع وبالدولة، وهذه أحزاب عادة ما تندرج تحت عنوان (الأحزاب الجماهيرية) التي يكون فيها مكتبها السياسي ذا سلطة قوية على البنية التنظيمية والفكرية، وعلى حضور الحزب في المستويات المحلية والإدارية، والخارجية أيضاً. وفي العموم على هذه الأحزاب أن تنهض بمسؤولية إعادة إنتاج نفسها بمرونة وتطوير، بعيداً عن (البيروقراطية الحزبية) من خلال المنتديات التشاركية، والتفاعل بالتصويت والاستبيانات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا في إطار المبادرة البنّاءة للتحلل من سيطرة التسلسل الهرمي الرسمي لبنيتها التنظيمية.
نحن البعثيون هذه الأيام نحثّ الخطى لنعزز حضورنا الشرعي، المنشود والواعد في المجتمع والدولة مستفيدين من تاريخنا النضالي ومن أدبيات حزبنا ومنجزاته، ومن وحدتنا التنظيمية والفكرية القابلة للتطوير، والتجديد والفاعلية أيضاً، (بذهنية) جديدة تعي متطلبات الواقع والمستقبل، أوضح ملامحها ومستلزماتها الأمين العام للحزب الرفيق الدكتور بشار الأسد في افتتاح دورة اجتماعات اللجنة المركزية في 16/12/2023، وذلك على المستويات التنظيمية والنظرية والتطبيقية، وها نحن اليوم نعيش مساراً (تنظيمياً) جديداً لم يكن معهوداً من قبل، نسير فيه بتؤدة وحذر وتشاركية واسعة تقوم على الاستبيانات والحوار والتفاعل عبر شبكات التواصل المتنوعة، لنجدد في حياتنا الحزبية والعامة أيضا بما يؤهل الحزب للنهوض في البناء المنشود للمجتمع والدولة.
هذا المسار التنظيمي يؤهّل بنجاحه المرتقب للجديد في مسار النظرية والتطبيق، آخذين بالاعتبار ضرورة بناء المجتمع السياسي الوطني المنشود بثوابته ومبادئه التي لا يمكن أن تكون إلّا سورية الواقع والمستقبل قادرة على النهوض به حزباً وشعباً وهوية وطنية وعروبية وإنسانية.
ولهذا سيبقى البعث ضرورة وهدفاً في وقت يحيي فيه خصومنا عصبيات عنصرية متطرفة، وهويات قاتلة يتحدثون بوضوح عنها، فوزير خارجية الولايات المتحدة يزور مؤخراً الكيان الصهيوني ويُعلن: أنا هنا يهودي ولست وزيراً، وقبله الفيلسوف هابرماس يوضّح لماذا تسلّح الجيش الأمريكي بالثقافة الإحيائية العصبوية منذ حرب العراق، وبالأمس ينصح ويحذّر د. كرمنيستر (الإسرائيلي) نتنياهو: (ينبغي اجتثاث هذا التدين في الجيش، وهذا الاستسلام لنزعات وأفكار عنصرية شرّيرة تنبض في قلوب جنوده). فنحن مع أمثال هؤلاء أمام عصبيات بل أحزاب متطرفة تستنهض شعوراً جمعياً ارهابياً يستثمر سلبياً في الدين، ما يتطلب منا الاستمرار في المبدئية والثوابت، بناء على (الجماهيرية)، و(العقائدية).
نعم إن الحزب، وحزبنا، بالتحديد، ضرورة وهدف يجب أن يتحققا، وأن يكونا واعدين خاصة في هذه الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية الصعبة.