دراساتصحيفة البعث

سقوط الرّدع الأمريكي

د.معن منيف سليمان

نجحت قوى المقاومة في إسقاط قوّة الرّدع الأمريكي سواء في اليمن أم العراق أم سورية. فلجأت واشنطن إلى تنفيذ ضربات انتقاميّة مع تحريك آلة الضغط الدبلوماسي على عواصم تلك الدول، والخروج ببيانات تقول فيها إنّ واشنطن تحتفظ بحق الردّ في المكان والزمان المناسبين، ما يعني أن قوّة الرّدع الأمريكي بدأت بالتهاوي والانهيار، وأن العجز عن الرّد يؤكّد من جديد الضعف الذي وصلت إليه أمريكا في كلّ المستويات، ويشير إلى قدرة محور المقاومة على تحويل العدد الكبير من القواعد الأمريكية في المنطقة العربية من تهديد إلى فرصة لتصعيد ضرباتها، وسوف تستمرّ هذه الضربات في اليمن والعراق وسورية ولن تتوقّف حتّى يتوقّف العدوان على قطاع غزّة، وتنسحب القوّات الأمريكية من المنطقة.

عمدت المقاومة إلى تصعيد ضرباتها المؤثّرة، وانتقلت إلى مرحلة جديدة شملت إدخال القوّة الصاروخيّة إلى ميدان العمل، وطال قصفها بالصواريخ قواعد أمريكية في العراق والعمق السوري.

ونجحت المقاومة العراقية في توجيه وتصعيد ضرباتها وتوسيع دائرة النار لتشمل أهدافاً إسرائيلية داخل فلسطين المحتلّة سواء في جنوبها أم حتى شمالها، وأيضاً في البحر مع إعلان استهداف منصّة غاز “كاريش” بطائرة مسيّرة.

وكانت الضربة العسكرية للمقاومة العراقية على القاعدة الأمريكية في الأردن الأقوى من حيث نوعيّة الهدف واختيار المكان ودقّة التوقيت والتأثير في الواقع الأمريكي داخليّاً، كما أنها قضت على المحاولات الأمريكيّة تقييد نشاط المقاومة العراقية بإنشاء لجان أمنيّة وعسكريّة مع العراق على أعلى المستويات، وكشفت المواقع الخلفيّة للجيش الأمريكي التي كان من المفترض أن تكون محاطة بالسريّة التامّة، وانكشافها يعدّ إخفاقاً أمنيّاً واستخبارياً غير مسبوقٍ.

وفي كلّ هجومٍ، كانت الولايات المتحدة تصرّح بأن ردّها يهدف إلى ردع المزيد من الهجمات وإرسال رسالة إلى محور المقاومة الذي يعمل بحريّة في العراق وسورية، لكن حتّى ذلك الوقت لم يُقتل أيّ جنديّ أمريكيّ بعد. وما يثير القلق، وفقاً لمسؤولين أمريكيّين، هو أنه لا بدّ أن تؤدّي إحدى الهجمات إلى مقتل جنود أمريكيّين، وبعد أن وقع ذلك بالفعل مؤخراً، بات هناك حاجة لردّ عنيفٍ قد يشعل حرباً واسعة تعمل واشنطن على تفاديها.

التردّد الأمريكي والعجز عن الرّد يؤكّد من جديد الضعف الذي وصلت إليه أمريكا في كلّ المستويات، ويشير إلى قدرة محور المقاومة على تحويل العدد الكبير من القواعد الأمريكية في المنطقة العربية من تهديد إلى فرصة لتصعيد هجماتها، إلى أن يتحقّق كنس القواعد الأمريكيّة من العراق وسورية إلى غير رجعة.

وفي جبهة اليمن لا يستطيع أيّ متابع تجاهل وقائع ما يجري في البحر الأحمر من تطوّرات دراماتيكية غير مسبوقة، حيث تفرض القوّات المسلّحة اليمنيّة ضمن تداعيات العدوان على غزّة مشهداً يقول: إنّ الملاحة في هذا الممرّ المائي الحيويّ للتجارة العالمية ونقل الطاقة أمام احتمالات التوقف، وإن الرّهان على قدرة الردع الأمريكيّة لبقاء الرفاه العالمي بخير حتّى لو قتل كل سكان غزّة ليس إلا وهماً، وإن القوّات المسلّحة على الرّغم من الحشود الأمريكيّة الضخمة في المنطقة تفرض معادلة تقول: إن حياة الغرب لن تبقى كما هي بينما غزّة تباد بكل وحشيّة وحكام الغرب يصفقون لآلة القتل الإسرائيلية، أو يخاطبونها بلغة التمنّي الخجل لتخفيف درجة التوحّش منعاً للإحراج.

إن الهجمات الأمريكيّة على اليمن في كانون الثاني الماضي، قد تتسبّب في تحويل الحرب الإسرائيلية على غزّة إلى صراع إقليمي أوسع، ولن تكون فعّالةً في ردع القوّات المسلّحة اليمنيّة عن شنّ الهجمات على سفن البحر الأحمر مستقبلاً، حيث أجبرت الهجمات اليمنيّة على طرق التجارة في واحد من أهم ممرّات الشحن العالمية، شركات الشحن الإسرائيلية أو المرتبطة بها على تعليق عملياتها، أو سلوك طريق الرحلة الأطول والأكثر تكلفةً حول إفريقيا.

وفي هذا الصدد قال الرئيس الأمريكي، “جو بايدن”: إن الضربات على اليمن ستستمرّ في البحر الأحمر، حتّى مع اعترافه بأنّها “لا تردع العدوان في المنطقة”.

ومن المؤكّد أن التهديدات الأمريكيّة لن تثني اليمنيين أو تردعهم عن المضيّ في تلك الحرب ضدّ العدوان والظلم، إذ شنّت القوّات المسلّحة اليمنيّة أكثر من 25 عملية استهداف لسفن تجاريّة يشتبهون بأنّها مرتبطة بكيان الاحتلال أو متّجهة إلى موانئه، قرب مضيق باب المندب الاستراتيجي عند الطرف الجنوبي للبحر الأحمر.

وعلى العكس، فإنّ النتائج جاءت معاكسة تماماً، إذ إن العمليات الهجوميّة اليمنية ستتوسّع لتشمل السفن العسكريّة والتجاريّة الأمريكيّة والبريطانيّة، وربما شملت دولاً أخرى، بما قد يؤدّي إلى إغلاق باب المندب، ويكون التحالف الأمريكيّ قد سقط في تداعيات اقتصاديّة وعسكريّة كبرى بدلاً من حماية السفن الإسرائيليّة أو المتجهة إلى موانئ العدو الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وهذا بالضبط ما قاله المندوبان الروسي والصيني في مجلس الأمن الدولي خلال الجلسة التي عقدت في الثاني من كانون الثاني الماضي بشأن مناقشة عمليات القوّات اليمنيّة في البحر الأحمر.

ويرى محلّلون أن إخفاق الولايات المتحدة الأمريكيّة في استعادة السفينة الإسرائيليّة المحتجزة لدى قوّات البحرية اليمنية “غلاكسي ليدر” واستعادة طاقمها، يعني أن الردع الأمريكيّ في اليمن قد بدأ يتلاشى، حيث يمثّل اختطاف السفينة اختباراً لحدود ردع الولايات المتحدة في اليمن. لقد تعهّدت الولايات المتحدة بحماية السفن التجاريّة في المياه الدوليّة، لكنّها لم تتمكّن من منع اليمنيين من شنّ هجمات على هذه السفن في الماضي.

ومن المؤكّد أنه مؤشّر يفتح الباب واسعاً للحديث عن سقوط الردع الأمريكي والغربي بما في ذلك في منطقة استراتيجيّة كالبحر الأحمر والبحر العربي، حيث حرصت القوى الكبرى منذ عقود على نشر قوّاتها وقواعدها العسكرية هناك، والمفارقة أن هذا السقوط للرّدع وللسيطرة الأمريكيّة يتمّ على يد قوى لا تمتلك الكثير من القوّة العسكرية، لكنّها تملك إرادة قوية وشجاعة كافية لتوجيه ضربات موجعة للغاية بدأت تعصف بقوّة الردع الأمريكيّة في المنطقة وتعمل على إسقاطها.

أمام هذا المشهد يظهر أن الردع الأمريكي أمام قوى المقاومة مفقود، وأن تصعيد الضربات العدائيّة، سيعني تصعيد الأخيرة من ضرباتها المؤلمة التي قد تصل إلى حدّ الاستهداف المكثّف الذي قد يدفع إلى اشتعال الأمور بشكلٍ كبيرٍ، وهو ما تحاول واشنطن تجنّبه لكثرة الاستحقاقات من جهة، وظهور أكثر من تحدٍّ أمامها، كما هو الحال في اليمن والبحر الأحمر، وكذلك جبهة العراق وسورية.