الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

عبد الفتاح قلعه جي

حسن حميد 

أعتزّ كثيراً بأنني عرفت أديب حلب الشهير عبد الفتاح قلعه جي (1938-2023) لأسباب عدة، لعلّ في طالعها ثقافتة الموسوعة التي تميّز بها على عادة أدباء حلب وكتّابها الكبار الذين جعلوا من شمولية المعرفة كتاباً ظلّوا يقرؤون فيه ويتعلمون حتى اختتام رحلتهم مع العطاء والإبداع، ومن أسباب اعتزازي بهذه المعرفة أيضاً هو أنّ عبد الفتاح قلعه جي ظلّ صاحب سؤال معرفي غايته المضايفة لكلّ جنس من أجناس الأدب الكثيرة التي كتب فيها، يسأل عن التفاصيل من أجل أن يكون تبيانها كشفاً لأسرار جديدة، ومن أسباب اعتزازي بمعرفة عبد الفتاح قلعه جي هو أنه أوقف حياته على الحضور المعرفي في عموم الثقافات كيما ينقش اسمه على صخرة الأدب والثقافة والفنون،ويكتفي من الدنيا بصفة الأديب.

والحقّ، إنّ عبد الفتاح قلعه جي لم يكن أديباً مبدعاً في الشعر والمسرح وحسب، وإنما كان الأديب العارف بأسرار الكتابة وجمالياتها الكاملة لها، كالخلود والبقاء والعطاء، فهو صاحب مدونة أدبية ذات شمولية ضافية، وصاحب إبداع ثقيل في رزانته وقيمته، وصاحب معرفة قلّ مثيلها في الآداب والفنون والثقافات العالمية، وبهذا الصنيع، وبهذه المهدوفية، حاكى تجارب الأدباء والكتّاب العرب والأجانب الذين أفنوا أعمارهم مساهرة للثقافة قراءةً وكتابةً واستئناساً وتأويلاً لكلّ جميل تكمن فيه الحياة المنشودة حتى لو محتها الدروب الوعرة.

لقد عُرف عبد الفتاح قلعه جي شاعراً مجيداً، مطبوعاً حاضر الصورة والفطنة والخيال والجمال في زمن حضور الشعر السوري الحديث مع نديم محمد، ونزار قباني، وعبد الكريم الناعم، وممدوح سكاف، وممدوح عدوان، وعلي الجندي، وفايز خضور، ونزيه أبو عفش، ومصطفى خضر، وأيمن أبو شعر، وعلي كنعان، وعبد الباسط الصوفي، وعبد الرحيم الحصني، ووصفي قرنفلي، وطلعت الرفاعي، ووجيه البارودي، وسعيد قندقجي.. إلخ، فكان الشاعر المنادد، والشاعر البهّار، والشاعر المجدّد الذي وسم قصيده بالعرفانية وما فيها من أسرار، وبالحداثة وما فيها من براعات، والجاذبية وما فيها من بوارق وإشراقات، وكان بمقدوره أن يكتفي بهذا، ويرضي حسّه الإبداعي بمنزلته الشعرية، لكن ما قرّ في صدره من أحلام جاز به، وعبر موهبته الوازنة، إلى كتابة المسرح، فبدا، وفي جميع مسرحياته، وكأنه خُلق من أجل أن يكتب المسرحيات التي راحت أصداؤها تتعالى وتعرّش ليس في فضاءات المسرح السوري وحده، وإنما في فضاءات المسرح العربي طراً، وكان من أهل الحضور بين كتّاب المسرح السوري الكبار أمثال: علي عقلة عرسان، ووليد إخلاصي، وسعد الله ونوس، وخالد محيي الدين البرادعي، ورياض عصمت، ومصطفى الحلاج، وفرحان بلبل.. إلخ، ولم يكتف أيضاً بهذا النجاح الكبير، بل جازت به موهبته ليكتب دراسات فذة غدت مراجع أدبية حول أعلام الأدب الذين كانوا في زمنهم علامات ضوء وشهرة لا تدانى، أمثال: السهروردي، والنسيمي، وحافظ الشيرازي، وبهذه الدراسات أدرك العرفانية وما فيها من علو معرفي وثنائيات الأرض والسماء، كالواقعي والعجائبي، والمدرك والأسطوري، والحق، والخير والجمال وما يقابلها من تضاد كشّاف.

أما كتابته لأدب السيرة، فيكفي المرء غنىً ما كتبه عن خير الدين الأسدي ليرى أيّ حياة عاشها الأسدي صاحب (أغاني القبة)، وأيّ أحلام جالت في صدره وعقله، وأيّ اشتقاقات عمل عليها، وأيّ تجربة أدبية خلّف وراءه، والحقّ لولا هذه السيرة التي كتبها عبد الفتاح قلعه جي عن خير الدين الأسدي لقلّ عارفوه، بل لقلّ عارفو تاريخ حلب، فهذه السيرة تكاد تكون سيرة حلب العمرانية من جهة وسيرتها الثقافية من جهة أخرى.

أما الموشحات التي ارتبطت ارتباطاً تاريخياً وفنياً بمدينة حلب، فقد وقف عندها عبد الفتاح قلعه جي متلبثاً، حتى لكأنه بدا مهموماً بها دون غيرها، فكتب عن نشأتها وأهميتها كشكل اشتق لنفسه معانيه ومعاييره وأوزانه، مثلما كتب عن أعلامها، أعني كتّابها، وعن منشديها، أعني المغنين الذين أذاعوها، وعن الموسيقيين الذين انصرفوا لوضع ألحانها، وبيان تعالقها مع التراث والتاريخ والحياة الاجتماعية، وما فيها من عادات وتقاليد وأعراف وتصورات، وقد خصّ اثنين من أعلام الموشحات بدراستين على غاية من الأهمية هما: أمين الجندي، وعمر البطش، ومن خلال هاتين الدراستين سيعرف القارئ هذا العناق الحميم، متعدّد الصور، ما بين أسئلة الحياة الرّاهنة، والتراث النابض بالحضور والأهمية ، وما بين الموسيقى والشعر والغناء.

ومهمومية عبد الفتاح قلعه جي مضت أيضاً إلى عالم القصص فتقفّى نشوء القصة، ووقف عند طبيعة النّص القصصي ومتطلباته، وتبيين جماليته أيضاً، وأشار إلى عيون الأدب القصصي وأعلامه، وفي أدب الأطفال كان له وقفات مهمة أيضاً، حيث شدّ نصوص أدب الأطفال إلى حوامله الأساسية، ومنها التعالق ما بين الحكاية وسرودها، والحكمة وغاياتها، والوضوح والتعبير وما يتطلّبانه من رفعة في الأسلوب، وجمال في الصورة والخيال.

عبد الفتاح قلعه جي، ابن حلب الأديب والشاعر والمسرحي والباحث، هو مثال للأديب الذي جعل من أدبه غابة معرفية لحياته التي ملأها بالجمال والسحر الحلال، كيما تكون بعد رحيله دارةً للمعرفة الحقّة، والتعب الجميل، والحذق البارع الندّاه.

Hasanhamid55@yahoo.com