الأخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

إلياس فاضل..!

حسن حميد

يكاد العجب يلفّني وأنا أقرأ سيرة الشاعر السوري إلياس فاضل (1933-2015) الذي أوقف حياته كلّها من أجل علوة شعرية أدهشت رفاق الدرب وعشّاق الشعر في آن، وذلك لأنّ حياته الطويلة نسبياً، وشواغله الشعرية المهمّة في مجال تحديث القصيدة العربية منذ عقد الخمسينيات وحتى رحيله في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، كلّها لم تواكبها شهرة تليق بهذه الحياة وبهذه الروح الشعرية التي تجاسرت لكي تشتق نهجاً جديداً للتعبير الشعري، وتصوغ شكلاً جديداً أيضاً للقصيدة العربية الجديدة أيضاً، عنيت بذلك قصيدة النثر.

في عام 1958، أصدر إلياس فاضل، ابن بلدة مرمريتا، في محافظة حمص، ديوانه الشعري الأول “أوراق جريحة” الذي سمح له بالعبور نحو الذوات القارئة بعد سنوات من التعب الجميل لصقل قصيدة النثر التي كانت آنذاك في مكان آخر من التجاهل وعدم الرضا، ليس بسبب حضور قامات شعرية عالية تكتب قصيدة العمود مثل الجواهري، وبدوي الجبل، وعمر أبو ريشة، وسعيد عقل، وقامات شعرية عالية أيضاً تكتب قصيدة التفعيلة مثل السياب، والملائكة، والبياتي، وعبد الصبور، وأدونيس، وإنما لأسباب كثيرة، لعلّ في طالعها قولة النقاد إنها قصيدة نبتت على جذع القصائد المترجمة من اللغات العالمية إلى لغتنا العربية.
جسارة إلياس فاضل الشعرية كتابةً وتنظيراً، وتوكيده شعرية هذه القصيدة جعلته رائداً من روادها واسماً كبيراً في المشهد الشعري السوري، فكان هو الجهة الرابعة التي تمثّل حضور قصيدة النثر في المشهد الشعري السوري مزامنة مع الشعراء: سليمان عواد، ومحمد الماغوط، وإسماعيل عامود، وأجيز لنفسي هنا، أن أضيف اسماً شعرياً آخر هو صالح درويش الذي كان له حضور مهمّ من خلال ما نشره من قصائد نثرية دار حولها نقاش نقدي واسع، وذلك في الفترة التي عاشها إلياس فاضل.

وما يثير العجب والرضا في آن، هو أنّ شاعراً كبيراً عرف شهرته من خلال كتابته لقصيدة العمود، هو سعيد عقل، كتب عن إلياس فاضل، فقال: “إلياس فاضل شاعر معرفة جعل الحياة تحت قلمه السّاحر أشبه بأسطورة”، وأنّ شاعراً وأديباً كبيراً مثل جبرا إبراهيم جبرا قال عنه: “إلياس فاضل من فئة الذين جمحت بهم أحاسيسهم العنيفة، فخرجوا بشعرهم خروجاً لا محيد عنه على الأشكال التقليدية لعلهم يحققون للشعر أسلوباً تتجدّد فيه اللغة، فيغدو وسيلة فعّالة للتعبير عن النفس المعاصرة، وهذه النفس، بما أحزنها، وما آلم وحشتها كالفراغ، والمقاهي، وعربات الآخرين المذهّبة، تحيط به كحرّاس طغاة، ولكنها تظفر بحريتها ظفراً لا شكّ فيه عن طريق هذا القول المتمرّد، فالكلمة نجاتها، والكلمة سلاحها إزاء كل ما يهدّدها”.
جعل إلياس فاضل الغربة والتنقّل بين المشاهد الشعرية العربية، من سورية إلى لبنان إلى الكويت، سمةً واسمة لحياته، مثلما جعل الصحافة مكاناً ليعمل فيه طلباً للتواصل مع الآخرين، ومعرفة حراك القصيدة العربية في مشاهدها الثقافية الرئيسة: دمشق، وبيروت، والقاهرة، وبغداد، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الشهرة اللائقة بجسارته الشعرية، وتوطيده لمكانة قصيدة النثر التي قوبلت آنذاك بتجهّمٍ عبوس، ونكران واضح، لم يحظ بها، ولم يذق طعومها، بل على العكس تماماً، كان النبر النقدي يلوم نصوصه ويعدّها متأثّرة بما اقترحته القصيدة الأجنبية من أشكال وتقنيات من جهة، ومن افتكاك لنفسه من قيود الأوزان من جهة ثانية.

عمل إلياس فاضل طوال سني حياته الأدبية في الصحافة، وتسلّم مواقع صحفية مهمة في سورية ولبنان والكويت، وقد عُرف بموضوعيته حين راح ينشر قصيدة العمود إلى جوار قصيدة النثر، فلا شيء عنده يميّز قصيدة من قصيدة سوى جمالها، وما تقترحه من موجبات الحداثة، وأنّ الأحكام المسبقة تجاه الشعر، وتجاه الابتكار عامة، هي مصادرة للإبداع، وأنّ كلّ شكل فني جميل مرحّب به ما دامت تربخ بين تضاعيفه أنفاس الحداثة والتمرد على القوالب النمطية المعروفة، ومع ذلك لم تكن الصحافة منصة تشير إلى أهمية التجربة الشعرية لإلياس فاضل، مثلما كانت منصة للتعريف بأنسي الحاج، وشوقي أبو شقرة، وفؤاد رفقة، ومحمد الماغوط الذين كان لهم من الشأن ما كان في الصحف اللبنانية عامة، ومجلة شعر خاصة.

اليوم، أستذكر إلياس فاضل، لأقول إنّ من حقّه علينا أن نعيد إليه ما يستحقّه من شهرة ومعروفية، وأن نستبدل التجاهل الذي تعرّض له في زمن غربته بما يليق به من إنصاف تجربته الشعرية الضافية، ومن جدارة ونيافة، وهي التي استطاعت قبل سبعين سنة محو غربة قصيدة النثر لكي تبدو كالأناشيد الجميلة في تجارب شعراء هم، اليوم، أصحاب مكانة وحظوة، ولولا مُكنة قصيدة إلياس فاضل وجمالها لاحتاجت التجارب الحديثة التي اتخذت من قصيدة النثر سلّماً للشهرة، إلى تعب أوفى ومراس أشدّ لتبدو مشعّة على هذا النحو من الحضور والطمأنينة والقرارة الجمالية.

Hasanhamid55@yahoo.com