اقتصادصحيفة البعث

“أموال عقيمة”..!!

قسيم دحدل

لم يجانب الحقيقة من وصف المصارف الخاصة العاملة في سورية بأنها “دكاكين”، حيث يغلب على نشاطها الإقراضي غير المنتج وغير التنموي وغير الإستراتيجي، صفة “العقم”، وهذا يعني أن قروضها تنصبّ على الاستهلاكي والريعي الموصف بسرعة دوران رأس المال، وبالتالي سرعة تحقيق الأرباح وضمانها نتيجة تدني نسب المخاطرة في مثل تلك القروض.. أي مصارف تعمل -كما يقال- “على المضمون”!.

ومع أننا لا ننكر على المصارف الخاصة حقها في التحوط من الخسارة، وحقها في الربح، لكن بالمقابل يمكننا أن ننكر عليها عدم توجّهها إلى الإقراض الاستثماري المنتج والمستدام. وهنا، على الحكومة أن تصدر نوعاً من التشريعات الملزمة التي من شأنها تنشيط القطاع المصرفي الخاص، عبر تحديد وتخصيص نسبة 50% من أمواله للإقراض الاستثمار الإنتاجي، الزراعي والصناعي والتحويلي، أسوة بالمصارف الحكومية المتخصّصة (مصرف زراعي– مصرف صناعي- مصرف عقاري).

إن البيانات الأولية المتعلقة بأرباح المصارف الخاصة، والتي أفصحت عنها مؤخراً سوق دمشق للأوراق المالية، تكشف الأرقام الخيالية غير المسبوقة التي حقّقها عدد من المصارف وشركات التأمين والاتصالات، فقد حقق -مثلاً لا حصراً- أحد المصارف 600 مليار ليرة، وآخر 500 مليار ليرة، وثالث 313 مليار ليرة، وحققت شركة اتصالات نحو 100 مليار، وشركة تأمين نحو 34 ملياراً، العام الفائت 2023.. إلخ.

أرقام ومبالغ لا شكّ أنها خيالية، لو قورنت بما حققته تلك المصارف والشركات بالعام 2022، وهي مدعاة لطرح جديّ حول وجود استثمارات مستقبلية تواكب -مثلاً- تحديات ومتطلبات الاستثمار في التغيّر المناخي، حيث تلعب مجموعة متنوعة من المؤسّسات المالية دوراً في ذلك: البنوك والمؤسسات المالية، وأصحاب الأصول المؤسسية، وصناديق التقاعد وشركات التأمين وصناديق الثروة السيادية وغير السيادية، والشركات الخاصة أو العائلية، والمنظمات الأهلية والاتحادات، ومؤسسات تمويل التنمية، وهنا نسأل باستغراب: لماذا، ولغاية الآن، لا يوجد لدينا صناديق استثمارية في مختلف المجالات (أين هو الصندوق الاستثماري لأموال شركات التأمين الذي أعلن عنه سابقاً برأسمال نحو 35 مليار ليرة..؟!!)، نستعد بها لمواجهة القادمات من التحديات الاقتصادية والزراعية والمائية التي تنبئنا البحوث والدراسات المحلية والدولية بمخاطرها المؤكدة؟!.

ولكون الشيء بالشيء يُذكر، كشف في هذا السياق بنك الاستثمار الأوروبي، في أحد تقاريره، أن نحو 45٪ من شركات الاتحاد تعمل في مجال التغيّر المناخي مقارنة بـ32٪ من الشركات في الولايات المتحدة.

وشهدت أوروبا الغربية والشمالية أكبر حصة من الشركات المستثمرة في هذه الإجراءات بنسبة 50٪، وعندما يتعلق الأمر باستثمارات محدّدة في التغيّر المناخي، يستمر الدفع بقوة نحو مشاريع كفاءة الطاقة، حيث استثمر ما يقرب من نصف الشركات في دول الاتحاد الأوروبي في كفاءة الطاقة، في 2020، علماً أن مشاريع التغير المناخي عالمياً تركز على الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة والزراعة والغابات وإدارة مصادر المياه المستدامة.

وعليه مثلما نطالب المواطنين باستثمار ما يُسمّى بـ”المدخرات العقيمة” في سوق الأوراق المالية، يجب أن نطالب المصارف وشركات التأمين والاتحادات والمنظمات، عندنا، باستثمار أموالها التي لا تزال “عقيمة”، برأينا، كي لا يأتي يوم نندم على ما فات ومات.. وأكبر دليل أموال تأميناتنا الاجتماعية التي أصبحت قيمة المليون فيها ألف ليرة بعد 12 سنة من عمر الأزمة!!.

وهنا نلفت إلى أن قرار المصرف المركزي، والذي يلزم فيه المصارف بعدم توزيع أرباح عام 2023 على شكل سيولة نقدية، وإنما على شكل أسهم مجانية، قرار غير مجدٍ، لأنه ببساطة يقود إلى تجميد تلك الأموال وليس إلى استثمارها، ما يجعل منها أموالاً “عقيمة” بشكل أو بآخر.. في حين كان يجب إيجاد الجبهات الاستثمارية التي من خلالها تحريك تلك الأموال باتجاه الاستثمار الإنتاجي الذي بدوره يؤدي للنمو الاقتصادي، وبالتالي تحسّن العائد التصديري من القطع الأجنبي، وبما يعنيه ذلك من رصيد يسهم في العودة التدريجية لقوة عملتنا الوطنية.. فهل وصلت الرسالة؟!.

Qassim1965@gmail.com