دراساتصحيفة البعث

البعث وفلسفة الانفتاح؟

د. خلف المفتاح

لم تكن أيديولوجيا البعث في يوم من الأيام أيديولوجيا صلبة وجامدة، بل وصفت نفسها بالنظرية النضالية القابلة للتطوير والاستجابة لضرورات الواقع وتحدّياته والانفتاح على كل التجارب بما يفيد تحقيق الأهداف التي نذر البعث نفسه لتحقيقها من منظور أنها تمثل وتتمثل المصالح العليا لأبناء الأمة وتلبّي تطلعاتهم في بناء مجتمع رغيد متناغم ومنسجم وفاعل، وإذا كان البعث قد عمل عبر مسيرته النضالية  وأنجز وحقق المزيد من النجاحات وتعثّر في تحقيق بعضها الآخر على أهميتها ومحوريتها لجهة أنه امتاز عن غيره بأنه امتلك مشروعاً قومياً وقياداتٍ فذة تتمثل راهناً بالرفيق الأمين العام للحزب سيادة الرئيس بشار الأسد تمثل بحكم تكوينها  الفكري والعقائدي والأخلاقي صاحبة رؤية تجديدية ذات طابع مكثف سياسي واجتماعي وعقائدي يصل إلى مستوى المشروع الوطني والقومي الذي يستمدّ  عناصره من فكر الحزب وأدبياته وعقيدته، مضافاً إليها التجربة الشخصية والتجربة  الذاتية وآليات التفكير والذهنية المتفتحة والعملية التي تمتلك قدرة فائقة على المزاوجة بين الثابت والمتحوّل في مقاربة واقع متغيّر ومتبدّل وظرف تاريخي استثنائي بالمعنى العميق للكلمة.

وهنا تصبح الأفكار المطروحة ساحة اختبار للجميع، وخاصة القوى الفاعلة في الميدانين السياسي والاجتماعي والكوادر الحزبية وقياداتها المتسلسلة  لقياس قدرتها على التعاطي مع الأفكار المطروحة بالمستوى المطلوب وامتلاكها إمكانية تحويل الأفكار المطروحة إلى سياسات وبرامج عمل تقود بالنتيجة إلى سلوك وثقافة مجتمعية وسياسية ترتقي بالوعي العام إلى المستوى المنشود في ظل التحدّيات  والمهام القائمة والملحّة في المجال العام.

ولا شك أن أفضل الأفكار هي تلك التي تمتلك قدرة عالية على التطبيق بحيث تتحوّل إلى كائنات حية يلمسها ويعيشها الجميع وتساهم بشكل خلاق في إحداث تغيير حقيقي في المجتمع، وإذا كان ثمة أفكار جيدة لا تجد مرتسماً لها على صعيد الواقع، فالمشكلة ليست في تلك الأفكار وإنما في عدم قدرة الممارس على وعيها واستيعاب مضامينها وجوهرها، ومن هنا تأتي أهمية أن تدفع الأحزاب والقوى السياسية إلى الواجهة الكفاءات والكوادر القادرة على التعاطي الفعال مع الأفكار المطروحة في إطار عملية التجديد التي تستلزمها طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية في سيرورتها التاريخية، وما تواجهه من تحدّيات وحاجة لاستجابة واعية لمتطلباتها.

إن التغيير في الأدوات والعناوين الكبرى التي أشار إليها الرفيق الأمين العام للحزب بشار الأسد في اجتماع اللجنة المركزية الذي عُقد الشهر الماضي، يأتي في إطار التعاطي مع الأفكار والعناوين الجديدة والبيئات السياسية المرتبطة بتغيير أو تجديد في المناخ الحزبي والوطني والسياسي والديمقراطي، وهو مسألة بالغة الأهمية لأنه لا يمكن التعامل مع أفكار جديدة بأدوات قديمة، والقديم المقصود به هنا هو العقلية والذهنية وطرائق التفكير، وليس شيئاً آخر آخذاً في الاعتبار أهمية ومحورية دور الشباب في أية عملية تطوير أو تغيير بنيوي في المجالين السياسي والفكري والمجتمعي، ولا سيما حال حصول انسداد في العمل الحزبي أو جفاف في الحوض السياسي أو نمطية قاتلة في الأداء العام.

إن نجاح القوى السياسية والأحزاب والمجتمع المدني بشكل عام في توطين الأفكار الجديدة المطروحة وتحويلها إلى ثقافة مجتمعية مسألة بالغة الأهمية، وهذا لا يتحقق إلا من خلال فعالية سياسية وحراك حزبي وجماهيري ديمقراطي وفعّال يتحوّل لبعث وتحدّيات المستقبل؟.

إن من أصعب ما تواجهه الأحزاب، وهي في السلطة، القدرة على الاستجابة للتحدّيات التي يفرضها الواقع بكل تعقيداته ويضعها أمامها، وشكل استجابتها مع حيثياتها، وخاصة إذا كانت لا تنسجم تماماً مع خطها الأيديولوجي وخطابها العام وكيف قدّمت نفسها لجمهورها، والسؤال هنا هل تنحاز قيادة الحزب ومركز القرار فيه للأيديولوجيا الصلبة أم لضرورات الواقع والحاجة؟ سؤال مهم يدفع باتجاه أن منطق الأشياء والمصلحة العامة يستدعي الانحياز لفكرة الحاجة والضرورة والمنفعة أي العقل البراغماتي النفعي، ولكن قد تجد من يخالف ذلك بالقول: إن دور الحزب هو تغيير الواقع، بل تغيير أنماط التفكير والوعي بما ينسجم مع أيديولوجيا الحزب وأهدافه ومشروعه، وهذا موقف له ما يبرّره ومن يتمسّك به، وهنا نكون أمام إشكالية التوفيق بين النظرية والممارسة واصطدام النظرية بالواقع المتغيّر وضروراته، ولا سيما أن الحزب قدّم نفسه خادماً ومعبّراً عن مصالح وتطلّعات  الجماهير ومتمثلاً لها لتكون رافعته ومصدر قوّته وشرعيته لجهة أن الأحزاب والحركات السياسية تستمدّ قوتها من الحيّز الاجتماعي الذي تمتلكه وقدرتها على  تحريضه وتوعيته وفق برامجها وسياساتها وأهدافها المرحلية والاستراتيجية، ولا شك أن لكل حركة سياسية أو تنظيم حزبي برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري، وهو ما يكسبه حيّزه الاجتماعي ويشكّل رصيده الشعبي في أية عملية ديمقراطية تنتج خريطة سياسية على أي مستوى تمثيلي، من هنا تأتي أهمية حفاظ أي تنظيم حزبي على هذا الرصيد الشعبي وتعزيزه وتوسيع مساحته، وما دمنا أمام استحقاقات ديمقراطية وتحدّيات مركّبة اقتصادية واجتماعية وسياسية ووجودية فلا بدّ لنا من طرح العديد من الأسئلة التي تتعلق بالمرحلة وطبيعة التحدّيات التي تواجهنا كحزب ووطن، ومستوى وطبيعة المواجهة المطلوبة، لأن تحديد الأولويات مسألة في غاية الأهمية، فهي تعني معرفة حركة الواقع واتجاهاته ومتطلباته، ما يعني أن عدم تحديد الأولويات مساوٍ تماماً للابتعاد عن الواقع والعيش في عالم الخيال.

إن تحديد الأولويات في ظل ظروف الحرب التي تعيشها وعاشتها سورية طوال اثني عشر عاماً أضحى ضرورة تمليها طبيعة الظرف الذي يمرّ به الحزب والوطن وحركة المجتمع نحو المستقبل، وهذا يستلزم إعادة إنتاج آليات وصيغ عمل وأفكار أي نهج واضح لمسار المرحلة، وهذا لا يعني الخروج عن الأهداف والمبادئ بقدر ما هو تجسيد عملي لها تستلزمه طبيعة الظرف التاريخي الذي يمرّ به المجتمع والدولة في آن معاً، لأن أي تجاوز لهذه الحقيقة يعني أن الحزب قد أصبح باتجاه وحركة المجتمع باتجاه آخر.

إن القول: إن الحزب هو فكر وتنظيم، أمر صحيح من حيث البنية والشكل، ولكن بالمضمون السياسي والاجتماعي والاقتصادي هو قول قاصر إن لم تتعزّز  المسألتان الفكرية والتنظيمية بالإنجازات التي على الحزب وقيادته تحقيقها في كل المستويات وتحديد مهام ذات طبيعة راهنية، وكذلك تطوير الخطاب الاقتصادي والاجتماعي والفكري والسياسي، وفي إطار الخطاب الثقافي أيضاً، فالإنجازات  التي تتحقق هي التي تكسب الحزب الشرعية الشعبية والمشروعية السياسية والاستمرار الفعلي، وهو ما يجب التركيز عليه في كل المراحل إن أراد الحزب أن يكون حاضراً وفاعلاً اجتماعياً وسياسياً ومؤهّلاً للاستمرار في ريادة المجتمع والدولة فعلاً لا نصّاً.

إن الحزب لا يتجدّد بمجرد تطوير أفكاره فقط، وإنما بتطوير وتجديد أدواته وتعزيز إنجازاته وتحقيق تنمية حقيقية في المجتمع، ما يوسّع دائرة منتسبيه ومؤيّديه، إضافة إلى حقيقة أن الحزب أيّ حزب سيفقد رصيده إن لم يحسن تنقية وغربلة ما يلحق به  من شوائب في بنيته التنظيمية من انتهازيين ووصوليين وفاسدين ومفسدين، أولئك الذين يجيدون ركوب كل الموجات وإظهار الحماس لكل ما هو جديد بهدف الاستمرار والوصول إلى أي موقع متقدّم أو على الأقل الحفاظ على ما هو قائم وحاصل.

إن البعث بوصفه طريقة تفكير ومشروعاً حاضراً ومستقبلاً، بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل منتسبيه على كل المستويات، ولاسيما وعي طبيعة المرحلة وتعقيداتها وضرورة التعامل معها بثقة وجرأة وعدم التمترس وراء عناوين لم تعُد تصلح وفقدت بريقها بحكم الواقع، ما يستدعي المراجعة الشاملة للفكر والممارسة، وهذا يحتاج إلى تفكير جديد وتجدّد طالما تحدّث عنه الرفيق الأمين العام، ووضع عنوان للمؤتمر القطري العاشر ما يعني تفعيله بوصفه عنواناً حزبياً يدعو ويدفع باتجاه توسيع دائرتي الفكر والممارسة والحيّز العام الوطني.

إن هناك الكثير ممّا يمكن الرهان عليه في حزب البعث العربي الاشتراكي وقواعده ومنتسبيه ومناصريه لأسباب نراها موضوعية، في مقدّمتها فكره الحضاري المنفتح والعابر لكل الخرائط الضيّقة وما حققه من إنجازات عبر مساره التاريخي على الصعيدين الوطني والقومي وخطّه السياسي الواضح والتزامه قضايا الجماهير وما توفّر له من قيادات تاريخية التزمت الخط الوحدوي العروبي الأصيل والحضاري والنهج الوطني المتحرّر من كل أشكال الارتهان للقوى الخارجية، وكانت دائماً منسجمة ومتصالحة مع مبادئه وقيمه وأخلاقياته، وهو ما يفسّر إلى حدّ بعيد كل هذا الاستهداف غير المسبوق لسورية الموقع والموقف ولقيادتها الثابتة الصامدة في وجه هذا السيل العارم من الأعداء.

إن الظرف الاستثنائي الذي تمر به سورية الدولة والمجتمع والهوية السياسية والحضارية يستوجب تحريض المخزون الحضاري والثقافي للشعب العربي السوري بكل أطيافه وانتماءاته التي تضرب عمقاً في التاريخ، لأن أحد أهم أهداف العدوان والحرب الكونية القذرة التي شُنّت وتُشن على سورية يتمثل في ضرب الفكرة السورية التي تشكّل الأنموذج في العيش والتفاعل والتكامل والتناغم بين أطياف الشعب السوري، وهي التي تشكّلت وانصهرت تاريخياً لتشكّل ما يمكننا تسميته الأنموذج السوري الذي هو في جوهره تجسيد واختصار ونمذجة لفكرة العروبة بأبعادها الحضارية والثقافية وفضائها القومي الممتدّ.

إن محاولات ضرب وتفتيت الفكرة الوطنية وتدمير العقد الاجتماعي والولاء الوطني لكل قطر عربي ليست مسألة جديدة، بل إنها مسألة تزامنت مع محاولات ضرب التيارات القومية وإخراجها من ساحة التداول السياسي والفكري والأيديولوجي، وهي فكرة مركزية وهدف ثابت لتيارات رجعية وظلامية ارتبطت موضوعياً مع قوى خارجية وتحالفت  معها ولا تزال على مدى عدة عقود. من هنا تأتي أهمية تشكيل حالة وعي على المستويين الوطني والقومي لمواجهة ذلك   ترتكز على فكرة أن تعدّد الانتماءات في الوحدات الصغرى على المستوى الوطني   يجب ألا يلغي وحدة الولاء للوطن أو يصطدم بفكرة العروبة الجامعة، بل إغناء  وتعزيز لها.

إن فكرة العروبة بمضمونها ومجالها الثقافي والجغرافي التي تبنّاها البعث بوصفها أحد عناوينه الرئيسية ما زالت هي الحل على المستويين القطري والقومي، ولكن عبر مقاربات جديدة طالما أشار إليها الرفيق الأمين العام للحزب من خلال ربطها بالمصلحة وليس بوصفها حلماً رومانسياً فقط، وهذا يعطي ويمنح الهدف ديناميكية عالية وتياراً واسعاً يتجاوز الأيديولوجيا الصلبة إلى الفضاء الشعبي والوطني والقومي الواسع ويترافق مع تشبيك للمصالح عبر الرأسمالين الوطني والقومي والكتلة الصلبة في المجتمعات العربية، ما يوفّر أرضية قوية وصالحة لبناء قومي يتأسّس على مصالح الأفراد والجماعات والدول، ويؤدّي بالنتيجة إلى تشكيل تكتل عربي اقتصادي واجتماعي وجيواستراتيجي يصبح رقماً في المشهد الدولي وشريكاً في بناء نظام دولي جديد تبدو إرهاصاته الأولى واضحة جلية ويسعى الجميع ليكونوا فاعلين فيه لا مراهنين على آخرين أياً كانوا حلفاء أم أصدقاء.